المقصود بالزيارة هي الموعظة وتذكر الآخرة، وإنما يحصل ذلك بثلاث رتب: الرتبة الأولى: أن يتذكر الإنسان أن هذا القبر الذي يراه، إما أن يكون روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار، وأن القبر الواحد أو القبرين الملتصقين، قد يكون أحدهما في غاية النعيم، والآخر في غاية العذاب، ولا هذا يشعر بعذاب هذا ولا هذا يشعر بنعيم هذا، بل قد تختلط العظام، فهذا في غاية النعيم والآخر في غاية العذاب، ولا يصل شيء من نعيم هذا إلى هذا، ولا شيء من عذاب هذا إلى هذا.
المرتبة الثانية: أن يستحضر أن هذا الموت حاجز حصين، انتقل به الإنسان الذي كان أهله يثقون به، ويكلون إليه أمورهم، فانقطعوا عنه، وانقطع عنهم، ولم يعد مطلعاً على شيء من أخبارهم وأمورهم، وأصبح في هذه الأجداث، ومن عمار القبور الذين هم أسارى ذنوب لا ينفكون وأهل قرب لا يتزاورون، أخبارهم منقطعة، وأملاكهم قد خرجوا منها:{وتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ}[الأنعام:٩٤]؛ كل ما كان لديه من الأسرار والأمور التي يختص بها أصبحت بيد من سواه، فهذه موعظة عجيبة.
المرتبة الثالثة: أن يستحضر الإنسان أن هذا هو مصيره، وأحسن الأحوال أن يموت بين المسلمين فيدفن في مقابر المسلمين، فيتذكر نفسه محمولاً على الرقاب إلى المقابر، ويتذكر الساعة التي يسلم فيها نفسه إلى الله سبحانه وتعالى، ويستسلم فيها وتنزع روحه من كل عرق من عروق جسده، ويذهب به إلى هذه المقابر ليس له مشاركة في الرأي ولا في الأمر ويوضع في هذا الحال، وهذه موعظة عجيبة.
وقد حصل لرجل في أيام معاوية رضي الله عنه، أن رأى جنازة تحمل إلى المقبرة في دمشق فخرج في تجهيزها، فلما دفن الميت، وقف على قبره وبكى، وأنشد قول الشاعر: ياقلب إنك من أسماء مغرور فاذكر فهل ينفعنك اليوم تذكير فبينما المرء في الأحياء مغتبط إذا هو الرمس تعصره الأعاصير يبكي عليه غريب ليس يعرفه وذو قرابته في الحي مسرور فلما أنشد الأبيات قال له أحد الحاضرين: أتدري لمن هذه الأبيات؟ قال: لا.
قال: إنها لهذا الميت الذي دفناه آنفاً، وأنت الغريب الذي يبكي عليه، وهذا ابن عمه ووارثه أقرب الناس إليه كان عدواً له وأصبح مسروراً بموته، فهذه موعظة عجيبة يتذكرها الإنسان في مثل هذه المواقف إذا رأى القبور، وانتقال الناس إلى الدار الآخرة.