للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[ميزة الإسلام في تنظيم الأخلاق والمعاملات]

وكذلك كان في الإسلام ما ينظم علاقات العباد فيما بينهم، وهو نوعان: النوع الأول: ما يسمى بالأخلاق، وهذه الأخلاق هي التي تحافظ على وشائج الناس وروابطهم وتنميها، وتحفظ الأدب العام للناس، فإن حقوق الناس متفاوتة، فقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن أحق الناس بالصحبة الأم ثم الأب، وذكر كذلك حقوق الجار، وحقوق الأقارب، وحقوق المسلمين بعضهم على بعض، وبين صلى الله عليه وسلم حق الكبير على الصغير وحق الصغير على الكبير، وكل ذلك داخل في مجال الأخلاق.

أما الجانب الثاني في التعامل فيما بين الناس فهو جانب المعاملات، وقد شرع فيها الإسلام تشريعاً واضحاً مبيناً للوجه الصحيح في التعامل، وذلك أن الله سبحانه وتعالى جعل هذه البشرية أمة من نفس واحدة، وأراد لها أن تكون مجتمعاً مترابطاً، فقطع كل ما يؤدي إلى الخلاف والفرقة، وأزال كل ما يؤدي إلى الظلم والعسف وقطيعة الرحم، ومن هنا تقرأ في سورة الحجرات ثلاثة عشر سبباً من أسباب القطيعة حرمها الله تعالى ونفاها عن المجتمع الإسلامي: أول هذه الأسباب: التعدي على الصلاحيات، وهو المذكور في قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات:١].

السبب الثاني: عدم توقير الكبار وذوي العلم والسن وذوي الفضل، وهذا أيضاً مأخوذ من هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات:١ - ٢].

ثم بعد هذا الكذب المأخوذ من قوله: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ} [الحجرات:٦].

ثم بعده عدم التبين والتثبت المأخوذ من قوله: {فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:٦] , وفي القراءة السبعية الأخرى (فتثبتوا).

ثم بعده الظلم، وهو المذكور في قوله: {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات:٩].

ثم بعد ذلك السخرية، وهي المذكورة في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ} [الحجرات:١١].

ثم بعد ذلك ظن السوء، والتنابز بالألقاب، والنميمة، والغيبة.

وهذه كلها هي المذكورة في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات:١٢].

ثم بعد هذا وضع القاعدة التي من أجلها ترابطت البشرية واتصلت عراها، وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:١٣].

وكذلك فإن الله وهب بعضهم ما يحتاج إليه غيره، وكان قادراً على أن يقسم الأرزاق فيما بينهم فيعطي كل شخص ما يحتاج إليه فقط، لكنه جعل تحت أيدي بعض الناس ما لا يحتاجون إليه ويحتاج إليه من سواهم، وحكمة ذلك الواضحة أن يبقى المجتمع مترابطاً يحتاج بعض أفراده إلى بعض ويقوم بعض أفراده برعاية بعض، فجعل من المجتمع أغنياء وجعل منه فقراء ليقع التكامل والترابط، ولهذا قال الله تعالى: {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [النحل:٧١] , وقال تعالى: {لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف:٣٢].

فوزع بينهم الأرزاق توزيعاً عجيباً، وشرع لهم من الشرائع ما ينظم تداول هذه الأرزاق فيما بينهم؛ لأن الإنسان إذا رأى حاجته ولم يجد وجهاً صحيحاً لأخذها وهو محتاج إليها فإن كان قوياً لابد أن يغصبها أو يتعدى عليها بالقوة، وإن كان ضعيفاً سيحتال عليها بمختلف الحيل كالسرقة والغش ونحو ذلك.

ومن هنا فإن الناس لا يحتاجون إلى هذه الحيل الملتوية إلا عند فساد النظام، فلا يحتاجون إلى الرشوة إلا عند فساد النظام، ولا يحتاجون إلى الغش والخديعة في البيوع ونحو ذلك إلا عند فساد النظام وعدم أخذه بالإسلام، فهذا الفساد الذي تراه مستشرياً في التعامل بين الناس أصله الإعراض عما شرعه الله سبحانه وتعالى، فلو رجع الناس إلى دين الله عز وجل وأخذوا به لما احتاج أحد أن يقدم رشوة ولم يحتج أحد لأخذها، ولم يحتج أحد كذلك لوساطة، ولم يحتج أحد لغش ولا خداع ولا تزوير في شهادة ولا تزوير في امتحان؛ لأن الحقوق مرعية محفوظة بنظام الله سبحانه وتعالى وبعدله.

لكن عندما يتخذ الناس هذا النظام ظهرياً ويعدلون به ما سواه فلابد أن يتردوا في أوحال الرذيلة، ولابد أن يظلم بعضهم بعضاً، وإذا شاع فيهم الظلم فسيقع الفساد المستشري الذي تحل بسببه عقوبة الله تعالى على الناس، كما قال سبحانه وتعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم:٤١].