الصفة الثانية: الاحتساب، فلا ينجح الداعية إلا إذا كان محتسباً في دعوته لله تعالى، لا يطلب عليها جزاء ولا شكوراً، ولهذا فما من نبيٍّ من الأنبياء إلا قال لقومه:{مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ}[ص:٨٦]، و {لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً}[هود:٢٩]، وهكذا، فما من نبي من الأنبياء إلا تبرأ من ذلك.
فالداعية إذا كان يطلب غير وجه الله بدعوته فإنما يدعو إلى نفسه، أو إلى ذلك الذي يطلبه، ومن هنا فلا بد من التوحيد في الدعوة، أي: أن تكون الدعوة خالصةً لوجه الله؛ لأنها عبادة يبتغى بها وجه الله ويتقرب بها إليه.
وقد أخرج مسلم في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(يقول الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك: فمن عمل عملاً أشرك فيه معي غيري، تركته وشركه).
والاحتساب يقتضي من الداعية: أن يجتهد في أن يكون قدوة حسنةً، ومثالاً صالحاً يهتدي به الآخرون، فيحاول أن يكون أبلغ الناس تضحية، وأكثرهم عبادة، وأكثرهم تأثراً بما يقول.
ولذلك فإن ابن الجوزي رحمه الله كان خطيباً مفوهاً، وكان إذا خطب في أمر استجاب الناس لخطبته، فأتاه الأرقاء في الشام فقالوا: لو خطبت عن العتق فلعل موالينا يعتقوننا، فوعدهم خيراً، فانتظروا الخطبة فخطب، ولم يذكر الرقَّ، ثم الخطبة الأخرى ولم يتعرض للعتق، ثم الثالثة فخطب عن العتق، وحظ الناس عليه، فأعتق الناس أرقاءهم، فأتوه فقالوا: رحمك الله تأخرت عن وعدك، فقال:(إني لا يمكن أن آمر الناس بأمر قبل أن أبدأ فيه بنفسي، ولم يكن لي رقيق أعتقه، فأخرت ذلك حتى أحرزت مالاً فاشتريت به رقيقاً فأعتقته، وحينئذ أمرت الناس بالعتق فبادروا إليه؛ لأنني بدأت بنفسي)!