[وجوب التوسط في معاملة النساء]
فلذلك لابد أن ننزل هذا المنهج إلى أعمالنا كلها، وأن نعرض عليه صغريات أمورنا وحياتنا وواقعنا، فمن هذه الأمور التي ينبغي أن تعرض على هذا المنهج الوسطي المستقيم ما يتعلق بمعاملة النساء وخلطتهن.
فهذا الجانب المنهج المستقيم فيه: أن المرأة أخت الرجل وأن بينهما من التعاون على البر والتقوى ما شرع لهما، وأن كل واحد منهما مكلف، حرم الله عليه أشياء وأوجب عليه أشياء، وحد له حدوداً لا يمكن تعديها، وأن كل واحد منهما مسئول عن رعاية هذا الدين ونصرته.
وأن الإفراط بتجاوز هذا المنهج مقيت، وأن التفريط في التقصير دونه مقيت شرعاً، والناس في هذا الباب في خلطة النساء يجمعون بين الأمرين: بين الإفراط والتفريط.
ففي مجال الإفراط نجد بعض الناس يزدري النساء ولا يحترمهن كبشر ولا يقدرهن هذا التقدير، ولا يشاور ولا يستفتي في أمور الدين النساء ولو كن أعلم وأعقل منه، مع أن الله أمرهن بتعليم الناس فقال: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب:٣٤]، وإذا أفتته امرأة فتوى لم يثق بها، فهذا إنما هو إفراط لا خير فيه وتفريط في حق المرأة نفسها.
ومثل ذلك في المقابل: التفريط في حقوقهن، أقصد الإفراط بتجاوز الحد فيما يتعلق بالتعامل معهن؛ كالاختلاط المحرم والخلوة المحرمة وكلام الريبة والخضوع بالقول، وكل ذلك مما حرمه الله ومن الحدود الخارجة عن المنهج السوي المستقيم.
ونجد بعض الناس في التعامل مع النساء يفرط ويبالغ، فلا يظن أنه عليه أن يرد السلام على المرأة إذا سلمت عليه، ويظن أن النساء أيضاً لا يسلمن على الرجال ولا يشمتن عاطساً، فيتكلم مع المرأة في أمور الدنيا لكن إذا عطس لا تشمته ولا يشمتها، وإذا سلم لا ترد عليه ولا يرد عليها! فترك الأمر الواجب المأمور به شرعاً، الذي هو من الحقوق الشرعية، ومن حقوق الإخوة الإسلامية، وهو يخوض في الحديث وأطرافه، بل ربما كان الحديث الذي يخوضان بما لا يحل الخوض فيه أصلاً كالخضوع بالقول وأحاديث الريبة، يتكلمان في الريبة ولا يرد أحدهما السلام على الآخر ولا يشمته إذا عطس، ولاشك أن هذا جمع بين الإفراط والتفريط.
ونجد بعض الناس لا يدخل على النساء في بيت إذا أراد تدريسهن فيجعل بينه وبينهن حائلاً مثلاً، أو يأمرهن بمغادرة المسجد، أو بما يمنعهن من الذهاب إلى الدروس، أو يمنعهن من الذهاب إلى المحاضرات، وكل هذا مخالف للمنهج النبوي، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله)، وكان يدرس النساء وكن يجلسن إليه، وقد قلن له: يا رسول الله! إن إخواننا من الرجال غلبونا عليك، فاجعل لنا يوماً من نفسك، فجعل لهن يوم الخميس.
ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يجعل بينه وبين النساء حاجزاً، بل كن يصلين معه في المسجد فكان يقول: (خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولوها)، وكان يأمر الرجال ألا ينصرفوا حتى ينصرف النساء، وكان يأمر النساء ألا يرفعن أبصارهن حتى يجلس الرجال من السجود لئلا ينكشف عليهن شيء من عورات الرجال.
وكن يشهدن معه الفجر متلفعات بمروطهن ما يعرفن من الغلس، وكن يشهدن معه صلاة العيد والاستسقاء والجمع، وفي حديث أم عطية: (كنا نؤمر بإخراج العواتق والحيض وربات الخدور يشهدن الخير ويكثرن سواد المسلمين)، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسلم عليهن، ويرد عليهن السلام، ويعودهن إذا مرضن، وكان أصحابه يفعلون ذلك، وفي صحيح البخاري: أن أبا بكر قال لـ عمر بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم: تعال بنا نزور أم أيمن كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها، فلما دخلا عليها بكت، فقالا لها: أما علمت أن ما عند الله خير لرسول الله صلى الله عليه وسلم من هذه الدنيا، فقالت: أما إني لا أبكي لأني لا أعلم أن ما عند الله خير لرسول الله صلى الله عليه وسلم من هذه الدنيا، ولكني أبكي لانقطاع الوحي من السماء، فهيجتهما على البكاء فبكيا، ثم قاما.
وكان عمر رضي الله عنه يزور العجائز من الأنصار ويخدمهن، فكان يحتلب الشاة لعجوز من الأنصار، وخرج ذات ليلة يعس، فسمع عجوزاً من الأنصار تضرب وبراً وهي تقول: على محمد صلاة الأبرار صلى عليك الطيبون الأخيار قد كنت قواماً بكى بالأسحار يا ليت شعري والمنايا أطوار هل تجمعني وحبيبي الدار فجلس عمر على بابها يبكي حتى طلع الفجر.
وقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة في زقاق من أزقة المدينة فمر على باب عجوز من الأنصار فإذا هي تقرأ القرآن، فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع إلى قراءتها فقرأت قول الله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية:١]، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نعم أتاني، نعم أتاني)، وجلس يبكي.
فلذلك لابد أن نعلم أن المنهج المستقيم في خلطة النساء يقتضي هذا، فلا إفراط فيه ولا تفريط.
ولا نتمكن من أن نتتبع جزئيات هذا الموضوع، لكن تكفي اللبيب الإشارة، وقد علم أن المنهج المستقيم منهج وسطي في كل الأمور صغائرها وجلائلها، وأن الإفراط في كل أمر مقيت شرعاً وأن التفريط مذموم، وأن كل فضيلة بين رذيلتين، وقد عرف ذلك بالأمثلة التي ذكرناها.
ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل ما نقوله ونسمعه حجة لنا لا علينا، وأن يوفقنا لما يحبه ويرضى، وأن يجعل عملنا خالصاً لوجهه الكريم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.