[ضرورة المبادرة إلى الطاعات واغتنام الأوقات]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمةً للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن الوقت هو الحياة، وإن عمر الإنسان قصير، وإن هذه الحياة هي دار الامتحان، فعلى الإنسان أن يبادر فيها للطاعات ما دامت الفرصة مواتية وسانحة، فإن هذه الدنيا دار انتقال، وبقاء الحال من المحال، ولذلك سرعان ما ينتقل عنها الإنسان ولم يشف منها غله، بل إن الذين انتقلوا من هذه الدار يتمنون الرجوع إليها ولو لحظة واحدة، كما قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المنافقون:٩ - ١١].
وقد أمر الله سبحانه وتعالى المؤمنين بالمبادرة إلى الطاعات والمسارعة فيها، فقال تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة:١٤٨]، وقال تعالى: {سَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:١٣٣ - ١٣٥]، وقال تعالى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الحديد:٢١].
إن هذه الدنيا مجال للمسابقة، والناس فيها كل يوم في مسابقة جديدة، كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها)، فيغدو الإنسان في صباحه بعمر جديد؛ لأنه عند نومه طويت صحائف أمسه، وختم عليها، ولا تنشر إلا عندما توضع الموازين بالقسط ليوم القيامة، في كل يوم ينادي المنادي: يا ابن آدم! أنا يوم جديد، عليك فيه لله خطاب أكيد، فلا تضيع الفرصة ثم إذا غربت شمس ذلك اليوم ذكر الموت الإنسان مرة أخرى بالليل: (فالله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها).
ولهذا فإن عمل الشيطان يتركز في هذه الحياة الدنيا على شغل الإنسان عن المبادرة إلى الطاعة، فيحاول معه تطويل الأمل، وهو الداء الأول للبشر، يقول له: إن أمامك عمراً طويلاً.
كما يقول للنائم عندما يعقد ثلاث عقد على قفاه: إن عليك ليلاً طويلاً فنم.
يضرب بذلك في كل عقدة، فكذلك يقول للإنسان: إن أمامك عمراً طويلاً، فما لم تفعله في هذا اليوم ستفعله غداً، وما لم تفعله في هذا الشهر ستفعله في الشهر القادم وما لم تفعله في الشهر القادم.
ستفعله في السنة القادمة، وهكذا فيطول الأمل، وقبل أن ينتبه يأتي الأجل، فالأمل أتى به الله سبحانه وتعالى ليعمل الناس في الدنيا، لا ليطيلوا الأمل فيغتروا به، وقد ورد في حديثٍ فيه ضعف (إن الله عز وجل لما أخرج ذرية آدم من ظهره رآهم فأعجبته كثرتهم، فقال: أي رب! كيف يعيش هؤلاء في هذه الأرض؟ فقال: إني خالق موتاً.
فقال: إذاً لا ينعم لهم بال عليها.
قال: إني خالقٌ أملاً).
فبالموت ينتقصون حتى تحملهم الأرض كفاتاً أحياءً وأمواتاً، وبالأمل تهدأ قلوبهم في هذه الدنيا، ويطمئنون إليها، لكن النبي صلى الله عليه وسلم صح عنه: (أنه خط خطاً مربعاً، وخط في داخله خطاً، ثم أخرج منه خطاً طويلاً، ثم خط خطوطاً صغيرة في الأطراف، فوضع إصبعه على الخط الذي في داخل المربع فقال: هذا الإنسان، ثم وضع إصبعه على المربع فقال: وهذا أجله.
ثم وضع إصبعه على الخط الخامس فقال: وهذا أمله، ثم وضع إصبعه على الخطوط الصغيرة فقال: وهذه الأعراض إن أخطأه هذا أصابه هذا)، فما يعرض للإنسان من الأمراض والآفات هي مقدرة عند الله سبحانه وتعالى، فإن أخطأه هذا أصابه الذي يليه، وهكذا.