[تفريق الله للعلماء على البلاد المختلفة]
إن أولئك الذين اختارهم الله سبحانه وتعالى لابد أن يتفرقوا في الأرض ضرورة؛ لأن الناس تفرقوا فيها وشغلوا، فلذلك لابد أن يكون في كل بلاد من بلاد الله من يحملون لواء الحق ويضحون في سبيله، ويبذلون كل ما يبذله الناس في أمور الدنيا في سبيل الله عز وجل وإقامة دينه.
ومن هؤلاء حملة العلم الذين آثروه على كل ما سواه، وبذلوا في سبيله أوقاتهم النفيسة، فكما ضحى المجاهدون بدمائهم في سبيل الله كذلك ضحى العلماء بمدادهم في سبيل الله، وكان لهم الدور البارز في تكوين المجاهدين والباذلين بمختلف أنواع البذل، فكم من عالم كتب له أجر الآلاف من المجاهدين والمضحين، وكم من عالم كذلك كتب لدعوته البقاء فاستجاب لها الملايين بعد موته، واستمرت خالدة في هذه الأرض ببركة إخلاصه لله عز وجل وقناعته بصدق ما جاء به الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.
إن هؤلاء الذين تفرقوا في الأرض لا يمكن أن يكون لبلد منهم ما هو أوفر من نصيب غيرهم من البلدان؛ لأن عدل الله سابق، لكن إنما تتفاوت حظوظهم باعتبار اعتراف الناس لهم بالجميل أو عدم اعتراف الناس لهم بذلك.
ومن هنا فعلماء قطر شنقيط الميامين الذين خاضوا مشارق الأرض ومغاربها حاملين هذا العلم ومبلغيه إلى كل من يمكن أن يؤتمن عليه، ومربين الأجيال على ما حملوه منه ثم يكن لهم في الماضي من الحظ لدى الناس ما ينقص أجرهم، فلم يشتهروا في حياتهم بالذكر والشكر في أغلب الأحيان، وإنما عاشوا في أغلب الأحيان مغمورين لا يعرفهم إلا أهل بلادهم.
واليوم في هذا الزمان الذي أصبح العالم فيه بمثابة قرية واحدة، وأصبحت الأنباء فيه تتناقل بما يسوء في أكثر الأحيان من مشارق الأرض إلى مغاربها ومن جنوبها إلى شمالها وبالعكس، كان جديراً بهؤلاء أن يذكر ما قدموه لعدة أمور: أولاً: اعترافاً بالجميل وشكراً للنعمة.
فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يشكر الله من لا يشكر الناس)، وفي رواية (لا يشكر الله من لم يشكر الناس)، فلابد أن يشكر الناس بما معهم من الحق.
وقد أمر الله بشكر ذوي النعم كالوالدين في قوله تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان:١٤].
وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم كذلك بالاعتراف بالجميل لأهله، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تسبوا أصحابي؛ فلو أن أحدكم أنفق مثل جبل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)، وكذلك صح عنه صلى الله عليه وسلم أمره بإنزال الناس منازلهم، ففي حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (أُمرنا أن ننزل الناس منازلهم)، ومن المعلوم أن الصحابي الكبير إذا قال: (أمرنا) فالمقصود بذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الأمر الثاني: أن هؤلاء العلماء قد اختارهم الله للائتمان على وحيه، فمن الثناء على الله ومن إعلاء كلمته ومن إعزاز دينه تشريفهم وتكريمهم، فهم أمناء الرسل وخلفاؤهم، فجدير بهم أن يذكروا وأن يبين فضلهم للأمة، وبالأخص في الأوقات التي تتعالى فيها صيحات المدعين الذين هم من الأدعياء الذين لا يبلغ أحدهم شسع نعل أحد من أولئك، ولا يمكن أن يصل إلى أقل شيء من تضحياته وبذله.
وفي الوقت الذي أصبح الخلف فيه يتنكرون للسلف فأصبحوا يظنون أنهم في غنى عما كان لدى أسلافهم، بل أصبح كثير من الناس يهرع في سباق محموم إلى حضارات أعدائه وثقافاتهم متنكراً لحضارات الأسلاف الذين هم -لا شك- أعقل وأزكى وأقرب إلى الله سبحانه وتعالى.
كذلك فإن هؤلاء الأئمة رحمهم الله قد خلفوا مجداً عريقاً ينبغي أن يحيا في أذهان الجيل الصاعد ليعلموا أنهم ورثة لذلك الجيل، وليساهموا في إحياء ما أبقوه، وليسلكوا طريقهم، فقد كانوا مُثُلاً يحتذى بها ويقتدى بها في طريق الحق.
وقد صح عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: من كان مقتدياً فليقتد بمن قد مات؛ فإن الحي لا تؤمن فتنته.
فأولئك الأسلاف الذين شهد لهم بالاستقامة حتى ماتوا على طريق الحق جدير بهم أن تبين سيرهم للناس ليقتدوا بهم وليسلكوا طريقهم.
كذلك لاشك أن البلدان الإسلامية -وبالأخص البلدان الفقيرة- تشهد في زماننا هذا كثيراً من المؤامرات الدنيئة الخسيسة من قبل أعداء الله ورسوله، فهم يشوهون تاريخها ويحاولون قطع الشعوب عن ماضيها، ويحاولون شغلهم بما لا خير فيه، فإذا راجعت المقررات الدراسية التي يقرها المعهد التربوي المحترم في موريتانيا ستجد فيها كثيراً من أدبيات الفرنسيين وغيرهم وقليلاً من تراث المسلمين، وبالأخص التراث العلمي لهذا البلد العريق.
كذلك مما يحدو إلى بيان حال هؤلاء والتنويه بأمرهم أن آثارهم أيضاً في هذه الأمة مشهودة محمودة، فقد سافر عدد منهم، فكانت لهم الصولات والجولات في مشارق الأرض ومغاربها، وأبقوا الأثر المحمود الذي ينبغي أن يشتهروا عليه وأن يذكروا به.
كذلك مما لا شك فيه أن هؤلاء أيضاً من حقهم علينا أن نبين بعض مآثرهم وبعض كتبهم التي تركوها لعلها تجد من يهتم بها فيبحث عنها ويفتش عنها بين مكتبات أهل البادية، لعلها تخرج فيستفيد منها الجيل الصاعد، فكم من إنسان عثر على مخطوطة نادرة ولم يكن هو من أهل العلم فاختزنها في خزانة وبقيت حبيسة طيلة عمره حتى إذا مات اكتشفت وعرفت قيمتها.
ومع الأسف فإن هذا المجال سبق فيه أعداء الله عز وجل من المستشرقين من المنصرين واليهود، فهم الذين سبقوا للتنقيب عن المخطوطات ونشرها، لكن من الواضح أنهم في ذلك لا يقصدون إشهار العلم وإحياءه، وإنما يقصدون إذاعة المنكر وإشاعته بين الناس.
ولهذا فإنهم يبحثون عن الكتب المنحرفة، فيفرحون كثيراً إذا وجدوا كتاباً في الخمريات، أو في أشعار الغزل المنحرف، أو في الفلسفات المترجمة الدخيلة على الإسلام، أو بعض كتب الذين اندسوا في التاريخ ولم يكن لهم ذكر في تاريخ هذه الأمة، فيحاولون نشر هذه الكتب.
وإذا تجرد بعضهم فاطلع على مخطوطة نادرة من التراث المهم لهذه الأمة في مثل مكتبة (الإسكوريال) أو (دبلن) أو غيرهما من المكتبات الغربية الكبرى يحاول إخراجها محرفة، والأمثلة على هذا كثيرة، وبين يدي كتاب المصاحف لـ أبي بكر بن أبي داود السجستاني رحمه الله، وهذا الكتاب قد نشره أحد المستشرقين عن نسخة مخطوطة، لكنه تعمد التحريف فيه والتبديل بما لا يدع مجالاً للشك من أنه قاصد لذلك متعمد له، ونظير هذا كثير جداً.
ولذلك فإن الأستاذ مصطفى السباعي رحمه الله عندما ألف كتابه المهم (السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي) فضح بعض سرائر هؤلاء المستشرقين، فناقش أحد المشاهير منهم وهو يوسف شخت عندما أراد أن يطعن في الإمام عبد الله بن المبارك رحمه الله فذكر أن مسلماً طعن فيه في مقدمة الصحيح، وأنه قال: كان عبد الله بن المبارك ثقة يأخذ عن كل من هب ودب.
وهذا المستشرق تعمد تحريف النص، فالنص في مقدمة صحيح مسلم هو كالتالي: قال عبد الله بن المبارك: كان بقية يأخذ عن كل من هب ودب.
وهذا تجريح من عبد الله لـ بقية، وبقية من الضعفاء، فغير هو الكلمة فقال: ثقة.
وجعل الكلام موجهاً إلى ابن المبارك فقال: وكان ثقة يأخذ عن كل من هب ودب.
بدل: وكان بقية يأخذ عن كل من هب ودب.
لكن الله فضحه أولاً بالتناقض، حيث لا يعلم أن من كان ثقة لا يمكن أن يأخذ عن كل من هب ودب، ثم بعد ذلك بما بينه الأستاذ مصطفى السباعي رحمه الله.