ومن هنا لم يأذن الرسول صلى الله عليه وسلم في التعرب بعد الهجرة إلا لأفراد قلائل، منهم: سلمة بن الأكوع، فقد أذن له الرسول صلى الله عليه وسلم في التعرب لما علم أنه قد جمع من العلم ما يكفيه، وأنه لا يقدر على كثير من خطوط الخلطة، وكذلك أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ أبي ذر رضي الله عنه بالتعرب، بل أخبر أن ذلك سيقع فقال:(رحم الله أبا ذر، يعيش وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده)، وذلك لما علم من حدته، وأنه لا يستطيع الصبر على كثير من الخلطة، فأذن له بالخروج بعد أن يجد أمارات يعرفها.
وقد رأى هذه الأمارات حين ثارت الفتنة في خلافة عثمان بن عفان، فخرج من المدينة، وبقي بالربذة حتى مات.
ولهذا فالاشتغال بتعلم ما جاء به رسول صلى الله عليه وسلم هو أفضل ما يشتغل به الإنسان من عبادة الله، ومن أجل هذا سئل مالك رحمه الله تعالى عن المقرب للقتل الذي لم يبق من عمره إلا ساعة واحدة في أي عبادة يصرفها؟ فقال: علم يتعلمه.
فقيل له: يا أبا عبد الله! إنه لا يعمل به؟ فقال: تعلمه أفضل من العمل به.
وقد صرح الشافعي رحمه الله بأن طلب العلم أفضل من صلاة النافلة، وذلك ما رواه السيوطي رحمه الله في قوله: والعلم خير من صلاة نافلة فقد غدا الله برزق كافله وقد كان الشافعي رحمه الله مثالاً في ذلك، فحين زار أحمد بن حنبل رحمه الله خصص له بيتاً للضيافة، فنزل في تلك الغرفة وبقي وحده، وبقيت ابنة لـ أحمد بن حنبل تراقبه، فلما أصبح قالت لأبيها: عجبت لضيفك هذا الذي يشار إليه؛ فإنه أكل كثيراً ونام كثيراً وصلى بغير وضوء! فتعجب أحمد من ذلك، فسأله فقال: أما أني أكلت كثيراً فقد سمعت أن من طوى بطنه عن طعام أخيه وهو يشتهيه لم يحسن أدبه معه، وأما أني نمت كثيراً فلم أنم، وإنما سمعت حديثاً فأعملت ذهني في الاستنباط منه، وأخرجت منه أربع عشرة مسألة -وهو حديث أنس بن مالك في قصة تردي الشاة من سلع-، وأما أني صليت بغير وضوء فما انتقض وضوئي حتى أذن المؤذن، فالوضوء الذي صليت به العشاء هو الذي صليت به الفجر.
ومن أجل هذا حرص كثير من سلفنا الصالح رحمهم الله تعالى على أن ينظموا وقتهم وأن يقسموه، وأن يجعلوا جزءاً لا بأس به من أوقاتهم لتعلم هذا العلم، وجعلوا ذلك رباطاً في سبيل الله، حتى إن أحمد بن حنبل رحمه الله ذهب في تفسير قول الله تعالى في مصارف الزكاة:{وفي سَبيلِ الله}[التوبة:٦٠]-وهو المصرف السابع من مصارف الزكاة الثمانية- إلى أن المقصود بذلك المجاهدون في سبيل الله الغازون، وطلبة العلم الذين يدرسونه، والحجاج والمعتمرون، وجعل طلاب العلم بمثابة الغازين المجاهدين في سبيل الله يستحقون سهماً من الزكاة حتى لو كانوا أغنياء.
وكذلك فإن المالكية رحمهم الله تعالى نصوا على أن المشتغلين بتعلم فروض الكفاية يتحملون فرض كفاية عن الأمة، فيستحقون الارتزاق على ذلك من بيت المال إذا كان بيت المال منتظماً، فإن لم يكن للمسلمين بيت مال كان لهم حقٌ في أموال الناس، وقد فصل العلماء في هذه المسألة، وشيخي رحمه الله يقول: من واجب الإسلام جمع مال تقضى به حقوق بيت المال إن لم يكن كحاملي علوم فرض الكفاية من الموسوم بحسن إدراك مع السريرة والطيب في سجية وسيرة ومن خلا من هذه الأوصاف منعه لفقد الاتصاف بل طلب العلم بتلك المرتبة خالٍ من المصلحة المجتنبة من هو في التكليف ما لم يطق وعبث في فعله والمنطق وكل يوم حجروه حجرا فكيف يأخذ عليه أجرا ذكره البواق في الإبداع فانظر تجده يوم يدع الداع