[امتناع الخسائس على الأنبياء]
السؤال
هل تعتبر المهن الخسيسة ممتنعة في حق الأنبياء؛ وكذلك غيرها من الخسائس؟
الجواب
أما الأعمال غير الخسيسة وغير الممتهنة فتجوز في حقهم؛ فقد كانوا يخصفون نعالهم، ويزرعون ويغرسون، ويشاركون الناس في أعمالهم كلها.
وكذلك يصابون بالأمراض غير المنفرة، بل يوعك أحدهم كما يوعك رجلان من الناس، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم؛ وذلك لزيادة ثوابهم، وعلو منزلتهم، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل)؛ وليكونوا أسوة حسنة يتسلى بهم من سواهم، فإذا أصيب أحدنا بمصيبة تأسى بأولئك الرسل الذين هم خيرة الخلق وأشرفهم، وأكرمهم على الله، فقد ابتلاهم الله بذلك فصبروا وصمدوا، فنتسلى بما أصابهم، ونتأسى بهم ونتعزى.
والمهن التي لا تؤثر في المروءة كرعاية الغنم لا تمنع في حقهم، بل صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه ما من نبي إلا وقد رعى الغنم، فقيل: وأنت يا رسول الله؟ فقال: وأنا، كنت أرعى غنماً لقريش على قراريط).
وعلى هذا فرعي الغنم مهنة غير خسيسة بل هي تعويد على القيادة والنصح والصبر، وتعويد على الخلوة بالنفس؛ لأن راعي الغنم لا يستطيع أن يجلس مع الناس؛ لأنه يخاف عليها من الذئب وكل عادية، فيكون دائماً خالياً بنفسه، فيقتضي ذلك جرأته وشجاعته، ويقتضي نباهته وقوة عقله؛ لأنه يخادعه الذئب وغيره من الحيوانات المفترسة عن غنمه، فراعي الغنم لا بد أن يكون نبيهاً ولا بد أن يكون صاحب فطنة وذكاء لكيد الأعداء.
وكذلك فإنها رياضة بدنية وروحية لما فيها من الخلوة والحركة الدائمة، ومثل هذا ما يتعلق بالتجارة والزراعة وغير ذلك.
فموسى عليه السلام رعى الغنم أيضاً كما صرح بذلك في سورة القصص، والنبي صلى الله عليه وسلم خرج بتجارة خديجة إلى الشام، وكذلك في الزراعة شارك في غرس النخل الذي كان سلمان كاتب عليها مواليه؛ وكذلك في البناء، فقد شارك في بناء المسجد وفي حفر الخندق وحتى بناء بيوت الناس فقد كان يشارك فيها، كما صح في صحيح البخاري أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه انتزع ميزاباً للعباس بن عبد المطلب كان في داره يصب في المسجد، فلما انتزعه، قال العباس: والله لقد وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، فبكى عمر بكاءً شديداً ثم أقسم على العباس أن يركب ظهر عمر حتى يعيد الميزاب إلى مكانه، وعمر خليفة إذ ذاك، فركب العباس مع ضخامة العباس وجسامته، حتى أعاد الميزاب إلى مكانه.
ونظير هذا من الأعمال كخياطة ثياب ونحوها، كل ذلك من الأعمال التي لا تزري بدين ولا مروءة ولا تنفر، فيحل أن يشتغل بها.
لكن يحرم في حق النبي ما يكون منفراً أو مقتضياً لعدم الاستجابة لدعوته، ومن هذا أخذ العلماء أن على من يدعو إلى الله سبحانه وتعالى، ويسلك طريق الأنبياء؛ أن يتزين للناس حتى لا ينفرهم بنفسه.
وما يطلب من الزهادة والتقشف في أمور الدنيا لا يطالب به الذين يدعون إلى الله ويخالطون الناس لهدايتهم؛ لأن ذلك ربما نفر كثيراً من الناس فلم يصلوا إلى تأثير في مستويات معينة من المجتمع، لكن ينبغي أن يكون ذلك في أيديهم وأن لا يكون في قلوبهم، وأن لا يغتروا بزخارف هذه الدنيا وما فيها، فليسوا أكرم على الله ممن سواهم، ولا ينبغي لهم أن يأمنوا مكر الله {فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:٩٩]؛ لذلك ذكر أهل العلم في اللباس أنه يندب فيه للعلماء والدعاة وخطباء المساجد تحسينه، وأن يكون من أرقى الأنواع وأثمنها، ليؤثروا بذلك في قلوب من لا يعتبرون إلا بمثل هؤلاء الذين ينظرون إلى المظاهر ويعنون بها.