الاستعلاء، الثاني: أنه يراد به قطع الوادي وبلوغ آخره من قولهم: أتى على الشيء إذا بلغ آخره، فتكلمت النملة بذلك، وهذا غير مستبعد، فإن حصول العلم والنطق لها ممكن في نفسه، والله سبحانه قادر على كل الممكنات.
وحكي عن قتادة أنه دخل الكوفة، فاجتمع عليه الناس، فقال: سلوا عما شئتم، وكان أبو حنيفة حاضرا، وهو يومئذ غلام حدث، فقال: سلوه عن نملة سليمان أكانت ذكرا أم أنثى؟
فسألوه فأفحم، فقال أبو حنيفة: كانت أنثى. فقيل له: كيف عرفت ذلك؟ فقال: من قوله تعالى: قالَتْ
ولو كانت ذكرا لقال قال نملة، لأن النملة مثل الحمامة والشاة، في وقوعها على الذكر والأنثى، قال: ورأيت في بعض الكتب أن تلك النملة، إنما أمرت رعيتها بالدخول في مساكنها، لئلا ترى النعم التي أوتيها سليمان وجنوده، فتقع في كفران نعمة الله عليه. وفي هذا تنبيه على أن مجالسة أرباب الدنيا محظورة.
يروى أن سليمان قال لها: لم قلت للنمل ادخلوا مساكنكم أخفت عليها مني ظلما؟ قالت:
لا ولكني خشيت أن يفتنوا بما يرون من جمالك وزينتك فيشغلهم ذلك عن طاعة الله.
قال الثعلبي وغيره: إنها كانت مثل الذئب في العظم، وكانت عرجاء ذات جناحين. وذكر عن مقاتل أن سليمان عليه السلام سمع كلامها من ثلاثة أميال.
وقال بعض أهل التذكير: إنها تكلمت بعشرة أنواع من البديع، قولها: يا
«١» نادت أَيُّهَا
«٢» نبهت النَّمْلِ
«٣» سمت ادْخُلُوا
«٤» أمرت مَساكِنَكُمْ
«٥» نعتت لا يَحْطِمَنَّكُمْ
«٦» حذرت سُلَيْمانُ
«٧» خصت وَجُنُودُهُ
«٨» عمت وَهُمْ
«٩» أشارت لا يَشْعُرُونَ
«١٠» اعتذرت. والمشهور أنه النمل الصغار. واختلف في اسمها فقيل: كان اسمها طاخية، وقيل كان اسمها حزمى. قيل: كان نمل الوادي كالذئاب، وقيل: كالبخاتي.
قال السهيلي، في التعريف والاعلام: ولا أدري كيف يتصور للنملة اسم علم، والنمل لا يسمي بعضه بعضا! ولا الآدمي يمكنه تسمية واحدة منها باسم علم، لأنه لا يتميز للآدميين بعضه من بعض، ولا هم أيضا واقعون تحت ملك بني آدم، كالخيل والكلاب ونحوهما، لأن العلمية فيما كان كذلك موجودة عند العرب.
فإن قلت: إن العلمية موجودة في الأجناس كثعالة وأسامة وجعار في الضبع ونحو هذا كثير، فالجواب أن هذا ليس من أمر النمل، لأنهم زعموا أنه اسم علم لنملة واحدة معينة من بين سائر النمل. وثعالة ونحوه مختص بواحد من الجنس، بل كل واحد رأيته من ذلك الجنس فهو ثعالة، وكذلك أسامة وابن آوى وابن عرس وما أشبه ذلك. فإن صح ما قالوا، وله وجه فهو أن تكون هذه النملة الناطقة، قد سميت بهذا الاسم في التوراة، أو في الزبور، أو في بعض الصحف، أو سماها الله تعالى بهذا الاسم، وعرفها به جميع الأنبياء قبل سليمان أو بعده، وخصت بالتسمية لنطقها وإيمانها، ومعنى قولنا: وإيمانها أنها قالت للنمل: وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ
، وهو التفاتة مؤمن أي أن سليمان عليه السلام من عدله وفضله، وفضل جنوده، لا يحطمون نملة فما فوقها، إلا وهم لا يشعرون.