أخرج من سجونه ثلاثمائة ألف. وقال ابن خلكان: ولم يكن لحبسه سقف يستر الناس من الشمس في الصيف، ولا من المطر في الشتاء، بل كان حوشا مبنيا بالرخام. وكان له غير ذلك من أنواع العذاب. وقيل: إنه سأل كاتبه يوما فقال: كم عدة من قتلنا في التهمة؟ فقال ثمانون ألفا.
وكانت مدة ولايته على العراق عشرين سنة، ومات وله ثلاث وخمسون سنة. روي أنه ركب يوم جمعة، فسمع ضجة، فقال: ما هذا؟ فقيل: المحبوسون يضجون ويشكون مما هم فيه، من الجوع والعذاب. فالتفت إلى ناحيتهم وقال: اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ
«١» . فما صلى جمعة بعدها. ورأيت على حاشية تاريخ ابن خلكان بخط بعض المشايخ أن بعض العلماء كفره بهذا الكلام وغيره مما وقع منه. وفي الكامل للمبرد: ومما كفر به الفقهاء الحجاج أنه رأى الناس يطوفون حول حجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنما تطوفون بأعواد ورمة. قلت: وإنما كفروه بهذا لأن في هذا الكلام تكذيبا لرسول الله صلى الله عليه وسلم نعوذ بالله من اعتقاد ذلك. فإنه صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:«إن الله عزّ وجلّ حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء» أخرجه «٢» أبو داود وذكر أبو جعفر الداودي هذا الحديث بزيادة ذكر الشهداء والعلماء والمؤذنين. وهي زيادة غريبة. قال السهيلي:
الداودي من أهل الفقه والعلم. ولكن روي عن أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رحمه الله، أنه رأى الحجاج في المنام بعد موته وهو جيفة منتنة، فقال له: ما فعل الله بك قال: قتلني بكل قتيل قتلته قتلة واحدة إلا سعيد بن جبير «٣» فإنه قتلني به سبعين قتلة. فقال له: ما أنت منتظر؟ فقال ما ينتظره الموحدون فهذا مما ينفي عنه الكفر. ويثبت أنه مات على التوحيد وعند الله علم حاله وهو أعلم بحقيقة أمره.
[تنبيه:]
فإن قيل: ما الحكمة في أن الله تعالى قتل الحجاج بكل قتيل قتله قتلة واحدة إلا سعيد بن جبير رحمه الله تعالى؟ وهو قد قتل عبد الله بن الزبير «٤» رضي الله تعالى عنهما، وهو صحابي وسعيد بن جبير تابعي؟ والصحابي أفضل من التابعيّ فالجواب أن الحكمة في ذلك، أن الحجاج لما قتل عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنهما كان له نظراء في العلم كثيرون كابن عمر وأنس بن مالك وغيرهما من الصحابة، ولما قتل سعيد بن جبير لم يكن له نظير في العلم في وقته.
وذكر غير واحد من المصنفين أن الحسن البصري رحمه الله لما بلغه قتل سعيد بن جبير، قال: والله لقد مات سعيد بن جبير يوم مات وأهل الأرض من مشرقها إلى مغربها محتاجون لعلمه. فمن هذا المعنى ضوعف العذاب على الحجاج بقتله. والله أعلم. وسيأتي حديث قتل سعيد بن جبير في باب اللام في اللبوة. وقتل عبد الله بن الزبير تقدم في باب الهمزة في الأوز.