الذي هو ملاك البدن، وينام كل واحد منها قائما على إحدى رجليه، حتى لا يكون نومه ثقيلا، وأما قائدها وحارسها فلا ينام، ولا يدخل رأسه في جناحه ولا يزال ينظر في جميع الجوانب، فإذا أحسن بأحد صاح بأعلى صوته.
ثم حكى عن يعقوب بن اسحاق السراج أنه قال: رأيت رجلا من أهل رومية قال: ركبت بحر الزنج فألقتني الريح إلى بعض الجزائر، فوصلت منها إلى مدينة أهلها أناس قامتهم قدر ذراع، وأكثرهم عور، فاجتمع عليّ منهم جمع فأخذوني وانتهوا بي إلى ملكهم، فأمر بحبسي، فحبست في شبه قفص، ثم رأيتهم في بعض الأيام يستعدون للقتال، فسألتهم فقالوا: لنا عدو يأتينا في مثل هذه الأيام، فلم نلبث إلا وقد طلعت عليهم عصابة من الغرانيق، وكان عورهم من نقرها أعينهم، فأخذت عصا وشددت عليها فطارت وهربت فأكرموني لذلك.
[فائدة]
: قال القاضي عياض وغيره: إن النبي صلى الله عليه وسلم لما قرأ سورة والنجم وقال «١» : أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى، وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى
قال:(تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجى) فلما ختم السورة سجد، وسجد من معه من المسلمين والكفار لما سمعوه أثنى على آلهتهم. ثم أنزل الله تعالى عليه: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ
الآية «٢» . وأجابوا عنه بضعف الحديث، فإنه لم يخرج أحد من أهل الصحيح ولا رواه ثقة بإسناد صحيح سليم متصل، وإنما أولع به وبمثله المفسرون والمؤرخون المولعون بكل غريب، المتلقفون لكل صحيح وسقيم.
والذي منه في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ والنجم وهو بمكة فسجد وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس هذا توهيمه من جهة النقل، وأما من جهة المعنى فقد قامت الحجة، وأجمعت الأمة، على عصمته صلى الله عليه وسلم ونزاهته عن مثل هذا، ولم يجعل الله تعالى للشيطان عليه، ولا على أحد من الأنبياء سبيلا. وعلى تقدير صحة ما رووه، وقد أعاذنا الله من صحته، فالراجح في تأويله عند المحققين أنه عليه الصلاة والسلام كان كما أمره الله تعالى يرتل القرآن ترتيلا، ويفصل الآيات تفصيلا في قراءته، فمن ثم ترصد الشيطان لتلك السكتات، ودس كلاما في تلك الكلمات محاكيا نغمة رسول الله صلى الله عليه وسلم بحيث يسمعه من دنا إليه من الكفار، فظنوها من قوله صلى الله عليه وسلم، ولم يقدح ذلك عند المسلمين.
بل روى محمد بن عقبة أن المسلمين لم يسمعوها وإنما ألقاها الشيطان في أسماع الكفار وعقولهم. وأيضا فمجاهد والكلبي فسر الغرانيق العلا بأنها الملائكة، وذلك أن الكفار كانوا يعتقدون أن الملائكة بنات الله تعالى. كما حكاه جل وعلا عنهم ورده عليهم في السورة بقوله تعالى: أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى
«٣» فأنكر الله تعالى كل ذلك من قولهم. ورجاء الشفاعة من الملائكة صحيح. فلما تأوله المشركون على أن المراد به ذكر آلهتهم، ولبس عليهم الشيطان ذلك وزينه في قلوبهم، وألقاه إليهم، نسخ الله تعالى ما ألقى الشيطان، وأحكم آياته، ورفع تلاوة ما