فاتخذ سبيله في البحر سربا، ونسلها في البحر إلى الآن في ذلك الموضع. وهي سمكة طولها أكثر من ذراع، وعرضها شبر واحد. في جانبيها شوك وعظام وجلد رقيق على أحشائها، ولها عين ونصف رأس من رآها من هذا الجانب استقذرها، وحسب إنها ميتة ونصفها الآخر صحيح، والناس يتبركون بها ويهدونها إلى الأماكن البعيدة قال ابن عطية: وأنا رأيتها كذلك قال: ومن غريب ما روى البخاري عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قصص هذه الآية إن الحوت إنما حيي لأنه مسه ماء عين هنالك تدعى عين الحياة ما مست ميتا قط إلّا وحيي. وقال الكلبي توضأ يوشع بن نون من عين الحياة، فنضح على الحوت المالح وهو في المكتل من ذلك الماء فعاش الحوت، فجعل يضرب بذنبه ولا يضرب بذنبه شيئا من الماء وهو ذاهب إلا يبس. قال: ومن غريبه أيضا أن بعض المفسرين ذكر أن موضع سلوك الحوت عاد طريقا يبسا، وإن موسى مشى عليه متبعا للحوت حتى أفضى به ذلك الطريق إلى جزيرة في البحر وفيها وجد الخضر.
[إشارة:]
كانت هذه القطرة مباركة فأحيا الله تعالى بها الميت، لأنها قطرة من وجه متوضىء وللعبادات تأثيرات، فحياة القلب من ميراث العمل. كان موسى ويوشع في تعب ومشقة فلما حيي الحوت وجدا السبيل إلى مطلبها. فكذا الجوارح والأعضاء في خوف وحيرة حتى تحيا القلوب بذكر الله تعالى، فإذا حيي القلب بالذكر أمنت الأعضاء وسكنت، واعلم أن موسى عليه السلام، جد في طلب الخضر حتى وجده. وكذلك يستحب لكل طالب فائدة دينية أو دنيوية أن يكون كرارا غير فرار. فإما الظفر والغنيمة، وإما القتل والشهادة، كما اتفق للحسين الحلاج وغيره، وقد تقدم ذكر قصته قريبا وروى أبي بن كعب رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«انجاب الماء عن مسلك الحوت فصار كوّة لم تلتئم فدخل موسى على أثر الحوت، فإذا هو بالخضر» . وقال قتادة: ما سلك الحوت طريقا إلا صار ماء جامدا طريقا يبسا. وكان موسى عليه الصلاة والسلام قد لحقه الجوع فقال لفتاه، وهو يوشع: آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً
«١» الآية.
قال ابن عطية: وكان أبو الفضل الجوهري يقول في وعظه: مشى موسى عليه السلام لمناجاة ربه تعالى أربعين يوما لم يحتج إلى طعام، ولما مشى إلى بشر لحقه الجوع. والإشارة في ذلك أنهما كانا متعلمين، وطالب العلم من حقه أن يحتمل كل مشقة، ولا يبالي بصيف ولا شتاء ولا جوع ولا ذل، إذ الذي يطلب لا يعرف قيمته إلا صاحبه، ومن عرف قدر ما يطلب هان عليه ما يبذل ومن طلب العظيم خاطر بالعظيم وسيأتي إن شاء الله تعالى، في باب الصاد المهملة، في الصرد عن مقاتل طرف من ذلك مطول.
وكانت حياة لحوت عند مجمع البحرين قال قتادة: مجمع البحرين هما بحر فارس وبحر الروم مما يلي الشرق وقيل: هما بحر الأردن وبحر القلزم وقيل هما بحر بالمغرب وبحر بالزقاق.
والحكمة في جمع موسى مع الخضر عليهما السلام بمجمع البحرين أنهما بحران في العلم أحدهما أعلم بالظاهر، وأعني بالظاهر علم الشرع وهو موسى والآخر أعلم بالباطن أعني بالباطن: علم الحقيقة وأسرار الملكوت وهو الخضر. فكان اجتماع البحرين بمجمع البحرين فحصلت المناسبة.