للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ومن طرق العقل الحميدة: القناعة وهي كنز لا يفنى، والصدقة وهي عز باق، وتمام عز الرجل استغناؤه عن الناس. ومن طرقه أيضا الحياء، وقد قيل:

إذا قلّ ماء الوجه قلّ حياؤه ... ولا خير في وجه إذا قلّ ماؤه

ومن طرقه أيضا حسن الخلق. روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا» «١» .

وروي أن يحيى بن زكريا عليهما السلام لقي عيسى ابن مريم عليهما السلام فتبسم عيسى في وجهه، فقال يحيى: ما لي أراك لاهيا كأنك آمن! فقال عيسى: ما لي أراك عابسا كأنك آيس! فقالا: لا نبرح حتى ينزل علينا وحي. فأوحى الله تعالى إليهما: أحبكما إلي أحسنكما خلقا.

[تتمة]

: ذكر الغزالي وابن بلبان وغيرهما، أن أبا جعفر المنصور حج ونزل في دار الندوة، وكان يخرج سحرا فيطوف بالبيت، فخرج ذات ليلة سحرا فبينما هو يطوف، إذ سمع قائلا يقول:

اللهم إني أشكو إليك ظهور البغي والفساد في الأرض، وما يحول بين الحق وأهله من الطمع.

فهرول المنصور في مشيته حتى ملأ مسامعه، ثم رجع لدار الندوة، وقال لصاحب الشرطة: إن بالبيت رجلا يطوف فائتني به. فخرج صاحب الشرطة فوجد رجلا عند الركن اليماني، فقال:

أجب أمير المؤمنين، فلما دخل عليه، قال: ما الذي سمعتك آنفا تشكو إلى الله من ظهور البغي والفساد في الأرض وما يحول بين الحق وأهله من الطمع؟ فو الله لقد حشوت مسامعي ما أمرضني! فقال له: يا أمير المؤمنين إن الذي دخله الطمع حتى حال بين الحق وأهله، وامتلأت بلاد الله بذلك بغيا وفسادا أنت! فقال المنصور: ما هذا؟ أو قال: ويحك كيف يدخلني الطمع، والصفراء والبيضاء ببابي، وملك الأرض في قبضتى؟! فقال الرجل: سبحان الله يا أمير المؤمنين، وهل دخل أحدا من الطمع ما دخلك؟ استرعاك الله أمور المؤمنين وأموالهم، فأهملت أمورهم واهتممت بجمع أموالهم، واتخذت بينك وبين رعيتك حجابا من الجص والآجر، وحجبة معهم السلاح، وأمرت أن لا يدخل عليك إلا فلان وفلان، نفرا استخلصتهم لنفسك، وآثرتهم على رعيتك، ولم تأمر بإيصال المظلوم، ولا الجائع ولا العاري ولا أحد إلا وله في هذا المال حق! فلما رآك هؤلاء الذين استخلصتهم لنفسك، وآثرتهم على رعيتك، تجمع الأموال ولا تقسمها، قالوا:

هذا قد خان الله ورسوله، فما لنا لا نخونه؟ فأجمعوا على أن لا يصل إليك من أمور الناس إلا ما أرادوا، فصار هؤلاء شركاءك في سلطانك، وأنت غافل عنهم، فإذا جاء المظلوم إلى بابك، وجدك قد أوقفت ببابك رجلا ينظر في مظالم الناس، فإن كان الظالم من بطانتك، علل صاحب المظالم بالمظلوم، وسوّف به من وقت إلى وقت، فإذا جهد وظهرت أنت، صرخ بين يديك، فيضرب ضربا شديدا ليكون نكالا لغيره! وأنت ترى ذلك ولا تنكر، ولقد كانت الخلفاء قبلك، من بني أمية، إذا انتهت إليهم الظلامة أزيلت في الحال.

ولقد كنت أسافر الصين يا أمير المؤمنين فقدمته مرة، فوجدت الملك الذي به قد فقد سمعه فبكى، فقال له وزراؤه: ما يبكيك أيها الملك لا أبكى الله لك عينا؟ فقال: والله ما بكيت لمصيبة

<<  <  ج: ص:  >  >>