نزلت بي، وإنما أبكي لمظلوم يصرخ بالباب، فلا أسمع صوته. ثم قال: إن كان سمعي قد ذهب فإن بصري لم يذهب، نادوا في الناس أن لا يلبس أحدا ثوبا أحمر إلا مظلوما. وكان يركب الفيل طرفي النهار، ويدور في البلد لعله يجد أحد لابسا ثوبا أحمر، فيعلم أنه مظلوم فينصفه، هذا يا أمير المؤمنين رجل مشرك غلبت رأفته على شح نفسه بالمشركين! فكيف لا تغلب رأفتك على شح نفسك بالمؤمنين وأنت مؤمن بالله وابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! يا أمير المؤمنين: إنما تجمع المال لإحدى ثلاث: إن قلت: إنما أجمع المال للولد، فقد أراك الله عبرة فيمن تقدم ممن جمع المال للولد، فلم يغن ذلك عنه، بل ربما مات فقيرا ذليلا حقيرا، إذ قد يسقط الطفل من بطن أمه وليس له مال، ولا على وجه الأرض من مال إلا ودونه يد شحيحة تحويه، فلم يزل يلطف الله تعالى بذلك الطفل، حتى تعظم رغبة الناس فيه، ويحوي ما حوته تلك اليد الشحيحة، ولست بالذي تعطي، وإنما الله المعطي. وإن قلت: إنما أجمعه لمصيبة تنزل بي، فقد أراك الله سبحانه وتعالى عبرة في الملوك والقرون الذين خلوا من قبلك، ما أغنى عنهم ما أعدوا من الأموال والرجال والكراع، حين أراد الله بهم ما أراد. وإن قلت: إنما أجمعه لغاية هي أجسم من الغاية التي أنت فيها، فو الله ما فوق منزلتك إلا منزلة، لا تدرك إلا بالعمل الصالح.
فبكى المنصور بكاء شديدا ثم قال: كيف أعمل والعلماء قد فرت مني، والعباد لم تقرب مني، والصالحون لم يدخلوا علي؟ فقال: يا أمير المؤمنين افتح الباب، وسهل الحجاب، وانتصر للمظلوم، وخذ من المال ما حل وطاب، وأقسمه بالحق والعدل، وأنا ضامن من هرب منك أن يعود إليك! فقال المنصور: نفعل إن شاء الله تعالى. وجاءه المؤذنون فآذنوه بالصلاة، فقام وصلى.
فلما قضى صلاته طلب الرجل فلم يجده. فقال لصاحب الشرطة: علي بالرجل الساعة فخرج يتطلبه، فوجده عند الركن اليماني، فقال له: أجب أمير المؤمنين. فقال له: ليس إلى ذلك سبيل.
فقال: إذا يضرب عنقي! فقال: لا، ولا الى ضرب عنقك من سبيل. ثم أخرج من مزود كان معه رقا مكتوبا، فقال: خذه فإن فيه دعاء الفرج، من دعا به صباحا، ومات من يومه مات شهيدا، ومن دعا به مساء، ومات من ليلته مات شهيدا، وذكر له فضلا عظيما وثوابا جزيلا.
فأخذه صاحب الشرطة، وأتى المنصور فلما رآه قال له: ويلك أو تحسن السحر! قال: لا والله يا أمير المؤمنين، ثم قص عليه فأمر المنصور بنقله، وأمر له بألف دينار. وهو هذا: اللهم كما لطفت في عظمتك وقدرتك دون اللطفاء، وعلوت بعظمتك على العظماء، وعلمت ما تحت أرضك كعلمك ما فوق عرشك، فكانت وساوس الصدور كالعلانية عندك، وعلانية القول كالسر في علمك، فانقاد كل شيء لعظمتك، وخضع كل ذي سلطان لسلطانك، وصار أمر الدنيا والآخرة كله بيدك، اجعل لي من كل غم وهم أصبحت أو أمسيت فيه فرجا ومخرجا، اللهم إن عفوك عن ذنوبي وتجاوزك عن خطيئتي وسترك على قبيح عملي أطمعني أن أسألك ما لا أستوجبه منك، مما قصرت فيه فصرت أدعوك آمنا، وأسألك مستأنسا، فإنك المحسن إلي وأنا المسيء إلى نفسي، فيما بيني وبينك تتودد إلي بالنعم، وأتبغض إليك بالمعاصي، فلم أجد كريما أعطف منك على عبد لئيم مثلي، ولكن الثقة بك حملتني على الجرأة عليك، فجد اللهم بفضلك وإحسانك علي، إنك أنت الرؤوف الرحيم. وروي أن الرجل المذكور كان الخضر عليه السلام.