للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومن غريب ما اتفق لهارون الرشيد، إن أخاه موسى الهادي، لما ولي الخلافة، سأل عن خاتم عظيم القدر كان لأبيه المهدي فبلغه أن الرشيد أخذه، فطلبه منه فامتنع من إعطائه، فألح عليه فيه، فحنق عليه الرشيد ومر على جسر بغداد فرماه في الدجلة. فلما مات الهادي وولي الرشيد الخلافة أتى ذلك المكان بعينه، ومعه خاتم رصاص، فرماه في ذلك المكان، وأمر الغطاسين أن يلتمسوه، ففعلوا فاستخرجوا الخاتم الأول. فعد ذلك من سعادة الرشيد وإبقاء ملكه. ونظير هذا ما حكاه ابن الأثير في حوادث سنة ستين وخمسمائة، قال: لما فتح السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب، قلعة بانياس وأخذها من الفرنج، ملأها ذخائر وعدة ورجالا، ثم عاد إلى دمشق، وفي يده خاتم بفص ياقوت، قيمته ألف ومائة دينار، فسقط من يده في شجرة بانياس، وهي كثيرة الأشجار ملتفة الأغصان فلما بعد عن المكان الذي ضاع فيه الخاتم، علم به فأعاد بعض أصحابه في طلبه ودلهم على مكانه، وقال: أظنه هناك سقط فرجعوا إليه فوجدوه.

انتهى.

وكان الرشيد، مع عظم ملكه، يعتريه خوف الله تعالى، فمن ذلك ما ذكره الإمام العلامة محمد بن ظفر وغيره أن خارجيا خرج عليه فقتل أبطاله، وانتهب أمواله مرارا، ثم إنه جهز إليه مرة جيشا كثيفا، فقاتلوه فغلبوه، بعد جهد وأمسكوه وأتوا به الرشيد فجلس مجلسا عاما، وأمر بإدخاله عليه فلما مثل بين يديه قال له: يا هذا ما تريد أن أصنع بك؟ قال: ما تريد أن يصنع الله بك إذا وقفت بين يديه، فعفا عنه وأمر بإطلاقه. فلما خرج قال بعض جلسائه: يا أمير المؤمنين رجل قتل أبطالك وانتهب أموالك تطلقه بكلمة واحدة تأمل هذا الأمر، فأنه مما يجرىء عليك أهل الشر. فقال الرشيد: ردوه فعلم الرجل أنه قد تكلم في أمره، فقال: يا أمير المؤمنين لا تطعهم، فلو أطاع الله فيك الناس ما ولاك طرفة عين. قال: صدقت. ثم أمر له بصلة وصرفه. وسيأتي إن شاء الله تعالى، ما اتفق له مع الفضيل بن عياض، وسفيان الثوري في باب الباء الموحدة والفاء.

وتوفي الرشيد في سنة ثلاث وتسعين ومائة بطوس ليلة السبت لثلاث خلون من جمادى الآخرة وهو ابن سبع وأربعين سنة وقيل خمس وأربعين. وكانت خلافته ثلاثا وعشرين سنة وشهرا وقيل ثلاثا وعشرين فقط. وولد بالرى وكان جوادا ممدوحا غازيا مجاهدا شجاعا مهيبا مليحا أبيض طويلا عبل «١» الجسم، قد وخطه الشيب يقال إنه منذ استخلف كان يصلي كل يوم وليلة مائة ركعة ويتصدق من خالص ماله بألف درهم وكان له معرفة جيدة بالعلوم.

[خلافة محمد الأمين وهو السادس فخلع وقتل كما سيأتي]

ثم قام بالأمر بعده ابنه محمد الأمين. بويع له بالخلافة يوم توفي والده بطوس واستناب أخاه المأمون على ممالك خراسان، وهو إذ ذاك ببغداد فورد بها عليه خاتم الخلافة والبردة والقضيب، ثم بويع له بها البيعة العامة وفي سائر الآفاق. وكان الرشيد قد جدد البيعة بطوس بولاية العهد لابنه المأمون بعد الأمين، وأشهد على نفسه أن جميع ما معه من مال وسلاح وغير ذلك، للمأمون وأوصى أن

<<  <  ج: ص:  >  >>