قال السهيلي: والحكمة في خاتم النبوة على جهة الاعتبار، أنه صلى الله عليه وسلم لما ملىء قلبه حكمة ويقينا ختم عليه، كما يختم على الوعاء المملوء مسكا أو درا. وأما وضعه أسفل من غضروف الكتف، فلأنه صلى الله عليه وسلم معصوم من وسوسة الشيطان، وذلك الموضع منه يوسوس الشيطان لابن آدم، لما روى ميمون بن مهران عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى، أن رجلا سأل ربه سنة أن يريه موضع الشيطان منه، فأري جسدا كالبلور، يرى داخله من خارجه، والشيطان في صورة ضفدع عند نغض كتفه، يحاذي قلبه له خرطوم كخرطوم البعوضة، قد أدخله إلى قلبه يوسوس له، فإذا ذكر الله العبد خنس. وقد تقدم هذا في باب الضاد المعجمة في الضفدع منقولا عن الزمخشري.
قلت: وانشقاق الصدر حصل له صلى الله عليه وسلم مرتين: إحداهما في صغره وهي هذه، والأخرى في كبره ليلة الإسراء. ففي الصحيحين «١» من حديث أنس وأبي ذر أنه صلى الله عليه وسلم قال: «فرج عني سقف بيتي، وأنا بمكة، فنزل جبريل ففرج صدري ثم غسله بماء زمزم، ثم جاء بطشت من ذهب ممتلىء حكمة وإيمانا فأفرغه في صدري ثم أطبقه» .
وقال أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة أنه صلى الله عليه وسلم حدثهم عن ليلة أسري به قال:«بينا أنا في الحطيم، وربما قال في الحجر بين النائم واليقظان، إذ نزل علي رجلان، فأتيت بطشت من ذهب مملوء حكمة وإيمانا، فشق صدري من النحر إلى مراق البطن، واستخرج قلبي فغسل، ثم حشي ثم أعيد» . وقال سعيد بن هشام:«ثم غسل البطن بماء زمزم ثم ملىء إيمانا وحكمة ثم أتيت بالبراق فركبته» . الحديث بطوله. وقال قوم: عرج به صلى الله عليه وسلم من دار أم هانىء أخت علي بن أبي طالب رضي الله عنهما.
[الحكم]
: يحل أكله بلا خلاف، وما أوهمه العبادي من جريان، خلاف طير الماء الأبيض فيه شاذ مردود. وقال الأصحاب: ما كان من الطيور المأكولة أكبر من الحمام كالبط والكركي، إذا قتلها المحرم أو قتلت في الحرم، فيه قولان: أحدهما إيجاب الشاة إلحاقا بالحمام من باب أولى، لأنه أكبر شكلا من الحمام، ويشهد له قول عطاء في عظام الطير شاة كالكركي والحبارى والأوز، والقول الثاني اعتبار القيمة، وهو القياس، فإن الشاة في الحمام لا تباع النقل. ويشهد له قول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، ما كان سوى حمام الحرم، ففيه ثمنه إذا أصابه المحرم.
[الأمثال]
: قالوا: «فلان أحرس من الكركي» لأنه يقوم الليل كله على إحدى رجليه كما تقدم. ومن أحسن ما يحكى عن الإمام الزاهد القدوة أبي سليمان الداراني أنه قال: اختلفت إلى مجلس قاص فتكلم فأحسن في كلامه فأثر كلامه في قلبي، فلما قمت لم يبق في قلبي منه شيء، فعدت ثانيا فسمعت كلامه فبقي في قلبي أثر كلامه في الطريق، ثم زال ثم عدت ثالثا، فبقي في قلبي أثر كلامه حتى رجعت إلى منزلي، فلزمت الطريق. فحكيت هذه الحكاية ليحيى بن معاذ الرازي رحمه الله تعالى. فقال «عصفورا اصطاد كركيا» أراد بالعصفور ذلك القاص وبالكركي أبا سليمان.