أخذت بضيق الخناق ووردت المساق، وأنت ترى حسناتك في ميزان غيرك، وسيآت غيرك في ميزانك، على سيآتك بلاء على بلاء، وظلمة فوق ظلمة، فاتق الله يا هارون في رعيتك، واحفظ محمدا صلى الله عليه وسلم في أمته، واعلم أن هذا الأمر لم يصر إليك إلا وهو صائر إلى غيرك، وكذلك الدنيا، تفعل بأهلها واحدا بعد واحد، فمنهم من تزود زادا نفعه، ومنهم من خسر دنياه وآخرته، وإياك ثم إياك، أن تكتب إلي بعد هذا فإني لا أجيبك، والسلام.
وألقى الكتاب منشورا من غير طي ولا ختم، فأخذته وأقبلت به إلى سوق الكوفة، وقد وقعت الموعظة بقلبي فناديت يا أهل الكوفة من يشتري رجلا هرب إلى الله؟ فأقبلوا إليّ بالدراهم والدنانير، فقلت: لا حاجة لي بالمال ولكن جبة صوف وعباءة قطوانية، فأتيت بذلك فنزعت ما كان علي من الثياب، التي كنت أجالس بها أمير المؤمنين، وأقبلت أقود الفرس الذي كان معي، إلى أن أتيت باب الرشيد حافيا راجلا، فهزأ بي من كان على الباب، ثم استؤذن لي، فلما رآني على تلك الحالة قام وقعد وجعل يلطم رأسه ووجهه، ويدعو بالويل والحرب، ويقول: انتفع الرسول وخاب المرسل! ما لي وللدنيا والملك يزول عني سريعا! فألقيت الكتاب إليه مثل ما دفع إلي فأقبل يقرؤه ودموعه تتحدر على وجهه، وهو يشهق، فقال بعض جلسائه: يا أمير المؤمنين قد اجترأ عليك سفيان، فلو وجهت إليه فأثقلته بالحديد وضيقت عليه السجن، فجعلته عبرة لغيره، فقال هارون: اتركوا سفيان وشأنه يا عبيد الدنيا، المغرور من غررتموه، والشقي والله حقا من جالستموه، إن سفيان أمة وحده. ولم يزل كتاب سفيان عند الرشيد يقرؤه دبر كل صلاة ويبكي حتى توفي رحمه الله تعالى.
وذكر ابن السمعاني وغيره أن المنصور كان يبلغه عن سفيان الإنكار عليه في عدم إقامة الحق، فتطلبه المنصور فهرب إلى مكة، فلما حج المنصور بعث بالخشابين أمامه، وقال: حيثما وجدتم سفيان فاصلبوه، فوصل الخشابون ونصبوا الخشب فأتى الخبر بذلك وسفيان نائم، ورأسه في حجر الفضيل بن عياض، ورجلاه في حجر سفيان بن عيينه، فقالا له خوفا عليه وشفقة: لا تشمت بنا الأعداء، فقام ومشى إلى الكعبة والتزم أستارها عند الملتزم، ثم قال: ورب هذه البنية لا يدخلها يعني المنصور، فزلقت راحلته في الحجون، فوقع من على ظهرها، فمات لوقته. فخرج سفيان وصلى عليه. وقد تقدمت الإشارة إلى ذكر شيء من مناقبه ووفاته في باب الحاء المهملة، في لفظ الحمار.
[الحكم]
: قال الشافعي رضي الله تعالى عنه: ما لزم اسم الخيل من العراب والمقاريف والبراذين، فأكلها حلال، وهو قول القاضي شريح والحسن وابن الزبير وعطاء وسعيد بن جبير وحماد بن زيد والليث بن سعد وابن سيرين والأسود بن يزيد وسفيان الثوري وأبي يوسف ومحمد بن الحسن وابن المبارك وأحمد واسحاق وأبي ثور وجماعة من السلف. وقال سعيد بن جبير: ما أكلت أطيب من معرقة برذون، ودليل هذا ما اتفق عليه البخاري ومسلم من حديث جابر رضي الله تعالى عنه قال:«نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية وأرخص في لحوم الخيل»«١» وذهب أبو حنيفة ومالك والأوزاعي إلى أنها مكروهة، إلا أن كراهتها عند مالك كراهة