بعض الحكماء، فأمرهم بنقل الفواخت إليها، ففعلوا ذلك، فانقطعت الحيات عنها. وهي عراقية وليست بحجازية، وفيها فصاحة وحسن صوت، وصوتها يشبه المثلث، وفي طبعها الانس بالناس وتعيش في الدور، والعرب تصفها بالكذب، فإن صوتها عندهم، هذا أوان الرطب، وتقول ذلك والنخل لم يطلع، قال الشاعر:
أكذب من فاختة ... تقول وسط الكرب
والطلع لم يبدلها ... هذا أوان الرطب
قلت: ويحتمل أنها إنما وصفت بالكذب، لما قاله الغزالي رحمه الله تعالى، في الإحياء، في أواخر كتابي الصبر والشكر، إن كلام العشاق الذين أفرط حبهم يستلذ بسماعه، ولا يعول عليه، كما حكى أن فاختة كان يراودها زوجها، فمنعته نفسها، فقال لها: ما الذي يمنعك عني؟ ولو أردت أن أقلب لك ملك سليمان ظهرا لبطن لفعلت لأجلك؟ فسمعه سليمان عليه الصلاة والسلام، فاستدعاه وقال: ما حملك على ما قلت؟ فقال: يا نبي الله إني محب، والمحب لا يلام وكلام العشاق يطوى ولا يحكى، وهو كما قال الشاعر:
أريد وصاله ويريد هجري ... فاترك ما أريد لما يريد
وقد تقدم في العصفور نظير هذا.
[فائدة]
: اعلم أن الناس قد كثر كلامهم، في وصف المحبة، ونعت العشق، فسلك كل منهم مذهبا أداه إليه نظره واجتهاده، وسأختصر من أقوالهم قدرا يسيرا كافيا.
قال عبد الرحمن بن نصر: أهل الطب يجعلون العشق مرضا، يتولد من النظر والسماع، ويجعلون له علاجا كسائر الأمراض البدنية، وهو مراتب ودرجات بعضها فوق بعض.
فأول مرتبة منه تسمى الاستحسان، وهي المتولدة من النظر والسماع، ثم تقوى هذه المرتبة بطول الذكر في محاسن المحبوب وصفاته الجميلة، فتصير مودة، وهي الميل إليه والتألف بشخصه، ثم تتأكد المودة فتصير محبة، والمحبة هي الائتلاف الروحاني، فإذا قويت هذه المرتبة صارت خلة، والخلة من الآدميين هي تمكن محبة أحدهما من قلب صاحبه، حتى تسقط بينهما السرائر، فإذا قويت هذه المرتبة صارت هوى، والهوى هو أن المحب لا يخالطه في محبة محبوبه تغير، ولا يداخله تلون، ثم يزيد الحال فيصير عشقا، والعشق هو إفراط المحبة حتى لا يخلو المعشوق من تخيل العاشق، وفكره وذكره لا يغيب عن خاطره وذهنه، فعند ذلك تشتغل النفس عن تنبيه القوى الشهوانية، فيمتنع من الطعام والشراب لاشتغال النفس عن تنبيه القوى الشهوانية، ويمتنع من الفكر والذكر والتخيل والنوم، لاستضرار الدماغ، فإذا قوي العشق صار تيما، وفي هذه الحالة لا يوجد في قلبه فضل لغير صورة المعشوق، ولا ترضى نفسه سواها، فإذا تزايد الحال صار ولها، والوله هو الخروج عن الحدود والترتيب، فتتغير صفاته، ولا تنضبط أحواله، ويصير موسوسا لا يدري ما يقول، ولا أين يذهب فحينئذ تعجز الأطباء عن مداواته، وتقصر آراؤهم عن معالجته، لخروجه عن الحد الضابط. وقد أجاد القائل حيث قال: