فشممتها فذهب عني ما كان بي من الوحشة، واعتراني الأنس. فقلت: وصية رحمكم الله، فقالوا: أبى الله أن يحيا بذكره ويأنس به إلا قلوب المتقين، فمن طمع في غير ذلك فقد طمع في غير مطمع، وفقنا الله وإياك. ثم ودعوني ومضوا وقد أتى علي حين، وأنا أرى برد كلامهم في خاطري. وفي كفاية المعتقد ونكاية المنتقد، لشيخنا اليافعي عن السري أيضا أنه قال: كنت أطلب رجلا صديقا مدة من الأوقات، فمررت يوما في بعض الجبال، فإذا أنا بجماعة زمنى وعميان ومرضى، فسألت عن حالهم فقالوا: ههنا رجل يخرج في السنة مرة فيدعو لهم فيجدون الشفاء، قال: فمكثت حتى خرج ودعا لهم فوجدوا الشفاء فقفوت أثره فأدركته، وتعلقت به، وقلت له: بي علة باطنة فما دواؤها؟ فقال يا سري خل عني. فإنه غيور وإياك أن يراك تأنس إلى غيره، فتسقط من عينه، ثم تركني وذهب. وفي كتاب التوحيد للإمام محمد بن أبي بكر الرازي، عن الجنيد أنه قال: كنت أسمع السري يقول يبلغ العبد من الهيبة والانس إلى حد لو ضرب وجهه بالسيف لم يشعر به. قال: وكان في نفسي منه شيء حتى بان لي أن الأمر كذلك. انتهى قلت: وذلك لأن الهيبة والأنس فوق القبض والبسط، والقبض والبسط فوق الخوف والرجاء، فالهيبة مقتضاها الغيبة والدهش، فكل هائب غائب حتى لو قطع قطعا لم يحضر من غيبته، إلا بزوال الهيبة عنه. والأنس مقتضاه الصحو والإفاقة، ثم إنهم يتفاوتون في الهيبة والأنس، فأدنى مرتبة في الأنس أنه لو ألقي في لظى ما تكدر أنسه، لأنه لا يشهد إلا هو، ولا يعرف إلا هو، ألا ترى إلى قول السري رحمه الله: يبلغ العبد من الهيبة والأنس إلى حد لو ضرب وجهه بالسيف لم يشعر به! وذلك لأن الأنس يتولد من السرور بالله، ومن صح له الأنس بالله، استوحش مما سواه، فهو باق بالله فان عن السوى لم ير غيره. ولم يشهد لسواه فعلا فلم ير في الكونين إلا إياه فلا يقع نظره إلا عليه، ولا بصره إلا على فعله، وخلقه لأن العارف عرف الصنعة بالصانع، ولم يعرف الصانع بالصنعة، فلم ير إلا فعله وخلقه. ولذلك قال الصديق الأكبر أبو بكر رضي الله تعالى عنه: ما رأيت شيئا إلا ورأيت الله قبله. وهذا هو المقام الشريف من التوحيد. واعلم أن العبد لا يذوق حلاوة الأنس بالله تعالى، إلا إذا قطع العلائق، ورفض الخلائق، وغاص في الدقائق، مطلعا على الحقائق. ولا ينبئك مثل خبير. واعلم أن حالتي الهيبة والأنس، وإن جلتا، فأهل الحقيقة يعدونهما نقصا لتضمنهما تغير العبد، فإن أهل التوحيد المتمكنين سمت أحوالهم عن التغير، فلهم كمال في المحو، ووجود في العين ولا هيبة لهم ولا أنس ولا علم ولا حس، وارتقاؤهم عن هذا المقام بالجود والفيض الإلهي. فسبحان من خص برحمته من شاء من عباده.
وقال السري رحمه الله: صحبت رجلا يقال له الوالد سنة لم أسأله عن مسألة، فقلت له يوما:
ما المعرفة التي ليس فوقها معرفة؟ فقال: أن تجد الله أقرب إليك من كل شيء، وأن ينمحي عن سرائرك وظواهرك كل شيء غيره. فقلت له: بأي شيء أصل إلى هذا؟ فقال: بزهدك فيك ورغبتك فيه سبحانه وتعالى. قال: فكان كلامه سبب انتفاعي بهذا الأمر. توفي السري لست خلون من رمضان، سنة ثلاث وخمسين ومائتين. وقيل غير ذلك والله أعلم بالصواب.
[الخواص:]
لا تدخل الجن بيتا فيه الأترج «١» . روينا عن الإمام أبي الحسن، علي بن الحسن،