للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

شككت أنه قد مات فقال بعضنا لبعض: تقدموا فما جسر أحد منا، فتقدمت أنا، فلما أردت أن أضع إصبعي على أنفه، فتح عينيه فكدت أن أموت فزعا، وتأخرت إلى خلفي، فتعلقت قبيعة «١» السيف بالعتبة، وعثرت فاندق السيف فكاد أن يدخل في لحمي، فخرجت وطلبت سيفا غيره، ثم رجعت فوقفت عنده، فوجدته مات بلا شك. فشددت لحييه، وغمضته وسجيته، وأخذ الفراشون تلك الفرش الثمينة، ليردوها إلى الخزانة، وترك وحده في البيت، فقال لي أحمد بن أبي دؤاد القاضي: إنا نشتغل بعقد البيعة، فاحفظه حتى يدفن، فرجعت وجلست عند الباب، فسمعت بعد ساعة حركة أفزعتني، فدخلت فإذا بجرذون قد جاء فاستل عينيه فأكلهما. فقلت: لا إله إلا الله هذه العين التي فتحها من ساعة، فعثرت واندق سيفي هيبة لها.

وتوفي الواثق بسر من رأى في رجب سنة اثنتين وثلاثين ومائتين وهو ابن ست وثلاثين سنة وأشهر وكانت خلافته خمس سنين وتسعة أشهر وكان أبيض مليحا، يعلوه اصفرار، حسن اللحية، في عينيه نكتة، عالما أديبا جيد الشعر، شجاعا مهابا حازما، فيه جبروت كأبيه سامحهما الله تعالى.

[خلافة جعفر المتوكل]

ثم قام بالأمر بعده أخوه جعفر المتوكل. بويع له بالخلافة بسر من رأى، يوم موت أخيه الواثق، بعهد منه في ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين ومائتين، فرفع المحنة بخلق القرآن، وأظهر السنة، وأمر بنشر الآثار النبوية، وذكر «٢» ابن خلكان في ترجمته أنه قال: ركبت إلى دار الواثق، في مرضه الذي مات فيه لأعوده، فجلست في الدهليز أنتظر الإذن، فبينما أنا جالس إذ سمعت النياحة عليه، وإذا ايداخ ومحمد بن عبد الملك الزيات «٣» يأتمران في أمري، فقال محمد: نقتله في التنور، وقال إيداخ «٤» . بل ندعه في الماء البارد حتى يموت، ولا يرى عليه أثر القتل، فبينما هما على ذلك، إذا جاء أحمد بن أبي دؤاد القاضي، فدخل وحدثهما كلاما لا أعقله، لما داخلني من الخوف، وشغل القلب بإعمال الحيلة في الهرب. فبينما أنا كذلك، وإذا بالغلمان يتعادون ويقولون: انهض يا مولانا، فلم أشك أني داخل لأبايع ولد الواثق ثم ينفذ في ما قدر، فلما دخلت بايعوني فسألت عن الحال فأعلمت أن ابن أبي دؤاد كان سبب ذلك.

ثم إن المتوكل قتل إيداخ بالماء البارد وابن الزيات في التنور. قال: وهذا من أغرب الاتفاق وعجيب الظفر، ومن العجب أيضا، أن محمد بن عبد الملك الزيات، هو الذي صنع التنور ليعذب فيه الناس، فعذبه الله فيه. وكان التنور من حديد داخله مسامير غير مثنية، وكان يسجر بحطب الزيتون، حتى يصير كالجمر، ثم يدخل الإنسان فيه. نسأل الله العافية في الدنيا والآخرة.

<<  <  ج: ص:  >  >>