مني إليك، أعلمك بالشوق الشديد إليك، وقد علمت يا أبا عبد الله ما جاء في فضل زيارة المؤمن ومواصلته، فإذا ورد عليك كتابي هذا فالعجل العجل. ثم أعطى الكتاب لعباد الطالقاني، وأمره بايصاله إليه وأن يحصي عليه بسمعه وقلبه، دقيق أمره وجليله، ليخبره به.
قال عباد: فانطلقت إلى الكوفة، فوجدت سفيان في مسجده، فلما رآني على بعد، قام وقال: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم وأعوذ بك اللهم من طارق يطرق إلا بخير، قال: فنزلت عن فرسي بباب المسجد، فقام يصلي ولم يكن وقت صلاة، فدخلت وسلمت فما رفع أحد من جلسائه رأسه إلي، قال: فبقيت واقفا وما منهم أحد يعرض علي الجلوس، وقد علتني من هيبتهم الرعدة، فرميت بالكتاب إليه، فلما رأى الكتاب، ارتعد وتباعد منه، كأنه حية عرضت له في محرابه، فركع وسجد وسلم، وأدخل يده في كمه، وأخذه وقلبه بيده، ورماه إلى من كان خلفه، وقال: ليقرأ بعضكم فإني أستغفر الله أن أمس شيئا مسه ظالم بيده. قال عباد: فمد بعضهم يده إليه، وهو يرتعد كأنه حية تنهشه، ثم قرأه فجعل سفيان يبتسم تبسم المتعجب، فلما فرغ من قراءته، قال: اقلبوه واكتبوا للظالم على ظهره، فقيل له: يا أبا عبد الله إنه خليفة، فلو كتبت إليه في بياض نقي لكان أحسن، فقال: اكتبوا للظالم في ظهر كتابه، فإن كان اكتسبه من حلال فسوف يجزى به، وإن كان اكتسبه من حرام فسوف يصلى به، ولا يبقى شيء مسه ظالم بيده عندنا فيفسد علينا ديننا! فقيل له: ما نكتب إليه؟ قال: اكتبوا له:
بسم الله الرحمن الرحيم، من العبد الميت سفيان، إلى العبد المغرور بالآمال هارون، الذي سلب حلاوة الإيمان، ولذة قراءة القرآن، أما بعد، فإني كتبت إليك أعلمك أني قد صرمت حبلك، وقطعت ودك، وإنك قد جعلتني شاهدا عليك بإقرارك على نفسك في كتابك، بما هجمت على بيت مال المسلمين، فأنفقته في غير حقه وأنفذته بغير حكمه ولم ترض بما فعلته وأنت ناء عني، حتى كتبت إلي تشهدني على نفسك، فأما أنا قد شهدت عليك، أنا وإخواني الذين حضروا قراءة كتابك، وسنؤدي الشهادة غدا بين يدي الله الحكم العدل، يا هارون هجمت على بيت مال المسلمين بغير رضاهم، هل رضي بفعلك المؤلفة قلوبهم، والعاملون عليها في أرض الله، والمجاهدون في سبيل الله، وابن السبيل؟ أم رضي بذلك حملة القرآن، وأهل العلم يعني العاملين، أم رضي بفعلك الأيتام والأرامل، أم رضي بذلك خلق من رعيتك؟ فشد يا هارون مئزرك، وأعد للمسألة جوابا، وللبلاء جلبابا، واعلم أنك ستقف بين يدي الحكم العدل، فاتق الله في نفسك، إذ سلبت حلاوة العلم والزهد، ولذة قراءة القرآن، ومجالسة الأخيار، ورضيت لنفسك أن تكون ظالما، وللظالمين إماما، يا هارون قعدت على السرير، ولبست الحرير، وأسبلت ستورا دون بابك، وتشبهت بالحجبة برب العالمين، ثم أقعدت أجنادك الظلمة دون بابك وسترك، يظلمون الناس ولا ينصفون، ويشربون الخمر ويحدون الشارب، ويزنون ويحدون الزاني، ويسرقون ويقطعون السارق، ويقتلون ويقتلون القاتل، أفلا كانت هذه الأحكام عليك وعليهم، قبل أن يحكموا بها على الناس! فكيف بك يا هارون غدا إذا نادى المنادي من قبل الله:
أحشروا الظلمة وأعوانهم!؟ فتقدمت بين يدي الله ويداك مغلولتان إلى عنقك، لا يفكهما إلا عدلك وانصافك، والظالمون حولك وأنت لهم إمام أو سائق إلى النار، وكأني بك يا هارون وقد