بذلك ويأتونه من ورائه، فإذا رأوه قد استرخت أذناه أخذوه. وذكره من عصب لا لحم ولا عظم، وقرنه مصمت لا تجويف فيه.
وهو في نفسه جبان دائم الرعب، وهو يأكل الحيات أكلا ذريعا وإذا أكل الحية بدأ بأكل ذنبها إلى رأسها. وهو يلقي قرونه في كل سنة، وذلك الهام من الله تعالى، لما للناس فيها من المنفعة، لأن الناس يطردون بقرنه كل دابة سوء وييسر عسر الولادة وينفع الحوامل، ويخرج الدود من البطن إذا أحرق منه جزء ولعق بالعسل، قاله في النعوت، ويسمن هذا الحيوان سمنا كثيرا فإذا اتفق له ذلك هرب خوفا من أن يصاد.
تتمة: قال الزجاجي سئل ابن دريد «١» عن معنى قول الشاعر:
هجرتك لا قلى مني ولكن ... رأيت بقاء ودك في الصدود
كهجر الحائمات الورد لما ... رأت أن المنية في الورود
تغيظ نفوسها ظمأ وتخشى ... حماما فهي تنظر من بعيد
تصد بوجه ذي البغضاء عنه ... وترمقه بالحاظ الودود
فقال: الحائم الذي يدور حول الماء ولا يصل إليه. ومعنى الشعر أن الأيايل تأكل الأفاعي في الصيف، فتحمى وتلتهب لحرارتها فتطلب الماء، فإذا رأته امتنعت من شربه، وحامت عليه تتنسمه، لأنها لو شربته في تلك الحالة فصادف الماء السم الذي في أجوافها هلكت، فلا تزال تمتنع من شرب الماء، حتى يطول بها الزمان فيذهب ثوران السم ثم تشربه فلا يضرها.
فيقول هذا الشاعر: أنا في تركي وصالك مع شدة حاجتي إليه بمثابة الحائمات التي تدع شرب الماء مع شدة حاجتها إليه، إبقاء على حياتها.
والزجاجي هو عبد الرحمن بن إسحاق أبو القاسم الزجاجي، إمام النحو صحب أبا إسحاق الزجاج، فعرف به ونسب إليه. وصنف كتاب الجمل وطوله بكثرة الأمثلة ولم يشتغل به أحد إلا انتفع به، لأنه صنفه بمكة المشرفة وكان إذا فرغ من باب طاف أسبوعا وسأل الله تعالى أن يغفر له وأن ينفع به قارئه. ومن كلامه ما حرم الله شيئا إلا وأحل بازائه خيرا منه: حرم الميتة وأباح المذكي، وحرم الخمر وأباح النبيذ، وحرم السفاح وأباح النكاح، وحرم الربا وأباح البيع.
توفي سنة سبع أو تسع وثلاثين وثلاثمائة بدمشق، وقيل بطبرية وما أحسن قول أبي منصور موهوب الجواليقي «٢» اللغوي:
ورد الورى سلسال جودك فارتووا ... ووقفت حول الورد وقفة حائم
حيران أطلب غفلة من وارد ... والورد لا يزداد غير تزاحم
وكان الجواليقي إماما في فنون الأدب، وله تصانيف مفيدة وكان إماما للخليفة المقتفي يصلي به الصلوات الخمس. ولما دخل عليه أول دخلة، قال السلام على أمير المؤمنين ورحمة الله