للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يطول طريقه ويشتد جوعه، وفي العنف به إحسان إليه. قال: وكيف ذلك؟ قال: يخف حمله ويطول أكله فأعجب الملك بكلامه، وقال: قد أمرت لك بألف درهم. فقال: رزق مقدور وواهب مشكور. قال الملك: وقد أمرت بإثبات اسمك في حشمي قال: كفيت مؤونة ورزقت معونة. فقال له الملك: عظني فإني أراك حكيما. فقال: أيها الملك إذا استوت بك السلامة فجدد ذكر العطب، وإذا هنأتك العافية، فحدث نفسك بالبلاء، وإذا اطمأن بك الأمن فاستشعر الخوف، وإذا بلغت نهاية العمل فاذكر الموت، وإذا أحببت نفسك فلا تجعلن لها في الإساءة نصيبا. فأعجب الملك بكلامه، وقال: لولا أنك حديث السن لاستوزرتك. فقال: لن يعدم الفضل من رزق العقل. قال: فهل تصلح لذلك؟ قال: إنما يكون المدح والذم بعد التجربة ولا يعرف الإنسان نفسه حتى يبلوها. فاستوزره فوجده ذا رأي صائب، وفهم ثاقب، ومشورة تقع موقع التوفيق.

وفي هذا الكتاب دعابات فمنها أن الرشيد خرج إلى الصيد، فانفرد عن عسكره والفضل بن الربيع خلفه، فإذا هو بشيخ كبير راكب على حمار، فنظر إليه، فإذا هو رطب العينين فغمز الفضل عليه، فقال له الفضل: أين تريد؟ قال: حائطا لي. قال: هل لك أن أدلك على شيء تداوي به عينيك فتذهب تلك الرطوبة؟ فقال: ما أحوجني إلى ذلك فقال له: خذ عيدان الهواء وغبار الماء وورق الكماة، فصره في قشرة جوزة، واكتحل به فإنه يذهب رطوبة عينيك.

فاتكأ الشيخ على قربوس «١» سرجه، وضرط ضرطة طويلة، ثم قال: هذه أجرة لوصفك، وإن نفعنا الكحل زدناك. فضحك الرشيد حتى كاد يسقط عن دابته. ومنها أنه حضر خياط لبعض الأمراء ليفصل له قباء، فأخذ يفصل والأمير ينظر إليه، فلم يتهيأ له أن يسرق شيئا فضرط فضحك الأمير حتى استلقى فأخرج الخياط من القباء ما أراد فجلس الأمير وقال: يا خياط ضرطة أخرى، فقال الخياط لا لئلا يضيق القباء. وفي كتاب نشوان المحاضرة قال ذو النون بن موسى:

كنت غلاما، والمعتضد إذ ذاك بكور الأهواز، فخرجت يوما من قرية يقال لها سانطف أريد عسكر مكرم «٢» . ومعي حماران واحد راكبه والآخر عليه حمل البطيخ، فمررت بعسكر المعتضد، وأنا لا أعلم من هو، فأسرع إلي جماعة منهم فأخذ واحد منهم من الحمل ثلاث بطيخات أو أربع، فخفت أن ينقص عن عدده فأتهم به، فبكيت وصحت، والحمار يسير على المحجة، والعسكر مجتاز وإذا بكبكبة عظيمة يقدمها رجل منفرد، فوقف وقال: يا مالك يا غلام تبكي وتصيح؟ فعرفته الخبر، فوقف ثم التفت إلى القوم وقال: أيه علي بالرجل الساعة. قال: فجيء به في أسرع من طبق البصر، حتى كأنه كان وراء ظهره، فقال: هو هذا يا غلام؟ قلت: نعم فأمر به فضرب بالمقارع، وهو واقف وأنا راكب على حماري، والعسكر واقف وجعل يقول له: وهو يضرب يا كلب أما كان معك ثمن هذا البطيخ؟ أما قدرت أن تمنع نفسك منه؟ أهو مالك أو مال أبيك؟

أليس صاحبه أتعب نفسه وأجهد في زرعه وسقيه وأداء خراجه؟ والمقارع تأخذه حتى ضرب مائة مقرعة. ثم أمر لي بأربعة دنانير وسار. وأخذ الجيش يشتموني ويقولون: ضرب القائد الفلاني بسبب هذا مائة مقرعة فسألت بعضهم فقال: هذا أمير المؤمنين المعتضد.

<<  <  ج: ص:  >  >>