قلة الرماة، واشتغال الناس بالغنيمة، ورأى ظهورهم خالية صاح في خيله من المشركين، ثم حمل على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من خلفهم فهزمهم، و «رمى عبد الله بن قمئة رسول الله صلى الله عليه وسلم بحجر فكسر رباعيته، وهشم أنفه وشجه في وجهه، فأثخنه وتفرق عنه أصحابه، ونهض رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صخرة ليعلوها وكان صلى الله عليه وسلم قد ظاهر بين درعين، فلم يستطع النهوض، فجلس تحته طلحة رضي الله تعالى عنه، فنهض صلى الله عليه وسلم حتى استوى عليها»«١» . ووقفت هند والنسوة معها يمثلن بالقتلى، يجدعن الآذان والأنوف حتى اتخذت هند من ذلك قلائد، وأعطتها وحشيا، وبقرت عن كبد حمزة رضي الله تعالى عنه فلاكتها فلم تستطع أن تسيغها فلفظتها وأقبل عبد الله بن قمئة، يريد قتل النبي صلى الله عليه وسلم، فذب عنه مصعب بن عمير رضي الله تعالى عنه، صاحب راية رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتله ابن قمئة، وهو يرى أنه قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرجع وقال: إني قتلت محمدا! وصاح صائح: ألا إن محمدا قد قتل، ويقال: إن ذلك الصائح كان إبليس، فانكفأ الناس وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناس إلى عبادة الله تعالى، فاجتمع إليه ثلاثون رجلا فحموه حتى كشفوا عنه المشركين، وأصيبت يد طلحة رضي الله تعالى عنه، فيبست حين وقى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصيبت عين قتادة رضي الله تعالى عنه يومئذ، حتى وقعت على وجنته، فردها رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانها فكانت أحسن ما كانت.
فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، أدركه أبي بن خلف الجمحي، وهو يقول: لا نجوت إن نجا محمد! فقال القوم: يا رسول الله ألا يعطف عليه رجل منا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دعوه» حتى إذا دنا منه، وكان أبي قبل ذلك يلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: عندي رمكة أعلفها كل يوم، فرق ذرة أقتلك عليها، فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:«بل أنا أقتلك إن شاء الله تعالى» . فلما دنا منه يوم أحد، وهو راكب فرسه، تناول رسول الله صلى الله عليه وسلم الحربة من الحارث بن الصمة، وانتفض بها انتفاضة، فتطايرنا عنه تطاير الشعراء عن ظهر البعير إذا انتفض، وطعنه في عنقه طعنة خدشته خدشة غير كبيرة، فتدهده بها عن فرسه، وهو يخور كما يخور الثور، ويقول: قتلني محمد، فحمله أصحابه، وأتوابه قريشا وقد حقد الدم واحتقن، فقالوا: لا بأس عليك، فقال: بلى لو كانت هذه الطعنة بربيعة ومضر لقتلهم أليس قال: أنا أقتلك؟ فو الله لو بصق عليّ بعد تلك المقالة قتلني، لم يلبث إلا يوما واحدا. ومات عدو الله بموضع يقال له سرف. وقال فيه حسان بن ثابت الأنصاري رضي الله تعالى عنه «٢» :
لقد ورث الضّلالة عن أبيه ... أبى حين بارزه الرسول
أتيت إليه تحمل رمّ عظم ... وتوعده وأنت به جهول
وقد قال صلى الله عليه وسلم:«أشد الناس عذابا من قتل نبيا أو قتله نبي»«٣» ، لأنه من المعلوم أن النبي لا يقتل أحدا ولا يتفق ذلك إلا في شر الخلق.