للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يكتم السر وقد أجاد فيه:

لي صديق غدا وإن كان لا ينطق ... إلا بغيبة أو محال

أشبه الناس بالصّدى إن تحدّثه ... حديثا أعاده في الحال

يقال: صم صداه وأصم الله صداه أي أهلكه الله لأن الرجل إذا مات لم يسمع الصدى منه شيئا، فيجيبه. ومنه قول الحجاج لأنس بن مالك رضي الله تعالى عنه: إياك أعني أصم الله صداك.

روي عن علي بن زيد جدعان، أن أنسا رضي الله تعالى عنه، دخل على الحجاج بن يوسف الثقفي الجائر المبير، فقال له الحجاج: إيه يا خبيث شيخا جوالا في الفتن، مع أبي تراب مرة، ومع ابن الزبير أخرى، ومع ابن الأشعث مرة، ومع ابن الجارود أخرى، أما والله لأجردنك جرد الضب، ولأقلعنك قلع الصمغة، ولأعصبنك عصب السلمة «١» ، العجب من هؤلاء الأشرار، أهل البخل والنفاق. فقال أنس رضي الله تعالى عنه: من يعني الأمير؟ فقال: إياك أعني، أصم الله صداك.

قال علي بن زيد: فلما خرج أنس من عنده قال: أما والله لولا ولدي لأجبته. ثم كتب إلى عبد الملك بن مروان بما كان من الحجاج إليه، فكتب عبد الملك إلى الحجاج كتابا، وأرسله مع إسماعيل بن عبد الله بن أبي المهاجر، مولى بني مخزوم، فقدم على الحجاج وبدأ بأنس فقال له: إن أمير المؤمنين قد أكبر ما كان من الحجاج إليك، وأعظم ذلك، وأنا لك ناصح إن الحجاج لا يعدله عند أمير المؤمنين أحد، وقد كتب إليه أن يأتيك، وأنا أرى أن تأتيه فيعتذر إليك فتخرج من عنده وهو لك معظم، وبحقك عارف. ثم أتى الحجاج، فأعطاه كتاب عبد الملك، فقرأه فتمعر وجهه، وأقبل يمسح العرق عن وجهه ويقول: غفر الله لأمير المؤمنين، ما كنت أراه يبلغ مني هذا! قال إسماعيل: ثم رمى بالكتاب إليّ وهو يظن أني قرأته، ثم قال: اذهب بنا إليه، يعني أنسا، فقلت:

لا بل يأتيك أصلحك الله! فأتيت أنسا رضي الله تعالى عنه، فقلت: اذهب بنا إلى الحجاج، فأتاه فرحب به، وقال: عجلت باللائمة يا أبا حمزة، إن الذي كان مني إليك، كان عن غير حقد، ولكن أهل العراق لا يحبون أن يكون لله عليهم سلطان، يقيم حجته، ومع هذا، فأنا أردت أن يعلم منافقو أهل العراق وفساقهم، إني متى أقدمت عليك، فهم علي أهون وأنا إليهم أسرع، ولك عندنا العتبى حتى ترضى.

فقال أنس: ما عجلت باللائمة حتى تناولت مني العامة دون الخاصة، وحتى شمت بنا الأشرار وقد سمانا الله الأنصار، وزعمت أنا أهل بخل، ونحن المؤثرون على أنفسهم، وزعمت أنا أهل نفاق ونحن الذين تبوؤا الدار والإيمان من قبل، وزعمت أنك اتخذتني ذريعة لأهل العراق، باستحلالك مني ما حرم الله عليك، وبيننا وبينك الله حكم هو أرضى للرضا، وأسخط للسخط، إليه جزاء العباد، وثواب أعمالهم، ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا، ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى، فو الله إن النصارى على شركهم وكفرهم، لو رأوا رجلا قد خدم عيسى عليه

<<  <  ج: ص:  >  >>