فأتى الفتى الغيضة فرآها ترعى فصاح بها، وقال: أعزم عليك بإله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب أن تأتي، فأقبلت تسعى حتى قامت بين يديه، فقبض على عنقها وأقبل يقودها، فتكلمت العجلة بإذن الله تعالى وقالت: أيها الفتى البار بوالدته اركبني فإن ذلك أهون عليك، فقال الفتى: إن أمي لم تأمرني بذلك، ولكن قالت خذ بعنقها. فقالت: وإله بني إسرائيل لو ركبتني لما قدرت علي أبدا، فانطلق فإنك لو أمرت الجبل أن ينقلع من أصله، وينطلق معك لفعل، لبرك بأمك. فسار الفتى بها إلى أمه فقالت له: إنك فقير لا مال لك، ويشق عليك الاحتطاب بالنهار والقيام بالليل، فانطلق فبع هذه البقرة، قال: بكم أبيعها؟ قالت: بثلاثة دنانير، ولا تبع بغير مشورتي، وكان ثمن البقرة إذا ذاك ثلاثة دنانير، فانطلق بها إلى السوق، فبعث الله إليه ملكا ليري خلقه قدرته، وليختبر الفتى كيف بره بوالدته، وكان الله عليما خبيرا، فقال له الملك: بكم تبيع هذه البقرة؟ قال: بثلاثة دنانير، وأشترط عليك رضا والدتي، فقال له الملك: فإني أعطيك ستة دنانير ولا تستأمر والدتك! فقال الفتى: لو أعطيتني وزنها ذهبا لم آخذه إلا برضا والدتي! ثم إن الفتى رجع إلى أمه وأخبرها بالثمن، فقالت له: ارجع وبعها بستة دنانير، على رضا مني، فانطلق بها إلى السوق فأتاه الملك فقال له: استأمرت أمك؟ فقال له الفتى: إنها أمرتني أن لا أنقصها عن ستة دنانير على أن أستأمرها، فقال له الملك: فإني أعطيك اثني عشر دينارا، على أن لا تستأمرها، فأبى الفتى ورجع إلى أمه، فأخبرها بذلك، فقالت له: إن الذي يأتيك ملك في صورة آدمي ليجربك، فإذا أتاك فقل له: أتأمرنا أن نبيع هذه البقرة أم لا؟ ففعل فقال له الملك: اذهب إلى أمك وقل لها: أمسكي هذه البقرة فإن موسى يشتريها منك لقتيل من بني إسرائيل، فلا تبيعيها إلا بملء مسكها ذهبا، أي جلدها دنانير، فأمسكوها. وقدر الله عز وجل، على بني إسرائيل، ذبح تلك البقرة بعينها مكافأة له على بره بأمه، فضلا منه ورحمة فما زالوا يستوصفون، حتى وصف لهم تلك البقرة بعينها.
واختلف العلماء في لونها فقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: شديدة الصفرة، وقال قتادة: لونها صاف، وقال الحسن البصري: الصفراء السوداء. والأول أصح لأنه لا يقال أسود فاقع، وإنما يقال أصفر فاقع، وأسود حالك، وأحمر قان، وأخضر ناضر، وأبيض يقق، للمبالغة.
فلما ذبحوها، أمرهم الله أن يضربوا القتيل ببعضها، واختلف في ذلك البعض فقال ابن عباس وجمهور المفسرين: ضربوه بالعظم الذي يلي الغضروف وهو المقبل. وقال مجاهد وسعيد بن جبير:
بعجب الذنب لأنه أول ما يخلق وآخر ما يبلى ويركب عليه الخلق. وقال الضحاك: بلسانها لأنه آلة الكلام، وقال عكرمة والكلبي: بفخذها الأيمن. وقيل: بعضو منها لا بعينه ففعلوا ذلك، فقام القتيل حيا بإذن الله تعالى، وأوداجه تشخب دما وقال: قتلني فلان، ثم سقط ومات مكانه، فحرم قاتله الميراث، وفي الخبر ما ورث قاتل بعد صاحب البقرة واسم القتيل عاميل. قاله البغوي وغيره.
قال الزمخشري وغيره: روي أنه كان في بني إسرائيل شيخ صالح له عجلة، فأتى بها الغيضة، وقال: اللهم إني أستودعكها لابني حتى يكبر، فكبر الولد وكان بارا بأمه، فشبت وكانت من أحسن البقر وأسمنه، فساوموها اليتيم وأمه حتى اشتروها بملء جلدها ذهبا. وكانت البقرة إذ ذاك