للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ورعيتها: تلقوا سيدكم وملك دولتكم فعاد الرسول إليه بالجواب، وأخبره بما رأى وسمع.

فلما أراد جذيمة أن يسير، دعا قصيرا وقال: أنت على رأيك؟ قال: نعم، وقد زادت بصيرتي فيه، أفأنت على عزمك؟ قال: نعم، وقد زادت رغبتي فيه. فقال قصير: «ليس الدهر بصاحب لمن لم ينظر في العواقب» «١» فأرسلها مثلا. ثم قال: «وقد يستدرك الأمر قبل فوته، وفي يد الملك بقية، هو بها مسلط على استدراك الصواب، فإنك إن وثقت بأنك ذو ملك وسلطان وعشيرة وأعوان، فإنك قد نزعت يدك من سلطانك، وفارقت عشيرتك وأعوانك، وألقيتها في يد من لست آمن عليك مكره وغدره، فإن كنت ولا بد فاعلا، ولهواك تابعا، فإن القوم أن يلقوك غدا رزدقا واحدا، وقاموا لك صفين، حتى إذا توسطتهم أطبقوا عليك من كل جانب، وأحدقوا بك فقد ملكوك، وصرت في قبضتهم. وهذه العصا لا يسبق غبارها. (وكان لجذيمة فرس تسبق الطير وتجاري الرياح، يقال لها العصا) ، فإذا رأيت الأمر كذلك فتجلل ظهرها، فهي ناجية بك إن ملكت ناصيتها» ، فسمع جذيمة كلامه ولم يرد جوابه. وسار وكانت الزباء، لما رجع رسول جذيمة من عندها، قالت لجندها: «إذا أقبل جذيمة غدا فتلقوه بأجمعكم، وقوموا له صفين، عن يمينه وعن شماله، فإذا توسط جمعكم، فانقضوا عليه من كل جانب حتى تحدقوا به، وإياكم أن يفوتكم» .

وسار جذيمة وقصير عن يمينه، فلما لقيه القوم رزدقا واحدا، قاموا له صفين، فلما توسطهم انقضوا عليه من كل جانب فعلم أنهم قد ملكوه، وكان قصير يسايره، فأقبل جذيمة عليه وقال:

صدقت يا قصير، فقال: هذه العصا فدونكها لعلك تنجو بها، فأنف جذيمة من ذلك، وسارت به الجيوش، فلما رأى قصير أن جذيمة قد استسلم للأمر، وأيقن بالقتل، جمع نفسه ووثب على ظهر العصا، وقال ابن هشام: إن قصيرا قدم العصا إلى جذيمة، فشغل عنها جذيمة بنفسه، فركبها قصير وأعطاها عنانها، وزجرها فذهبت تهوي في هوي الريح، فنظر إليه جذيمة وهي تطاول به، وأشرفت عليه الزباء من قصرها، فقالت له: ما أحسنك من عروس تجلى علي وتزف إلي حتى دخلوا به على الزباء، ولم يكن معها في قصرها إلا جوار أبكار، وهي جالسة على سريرها وحولها ألف وصيفة، كل واحدة لا تشبه صاحبتها في خلق ولا زي، وهي بينهن كأنها قمر قد حفت به النجوم.

وقال ابن هشام: وكانت الزباء قد ربت شعر عانتها حولا، فلما دخل عليها جذيمة، تكشفت له وقالت: أمتاع عروس ترى؟ فقال: بل متاع أمة بظراء! فأمرت به فأجلس على نطع، وقيل: إنه لما أدخل عليها أمرت بالانطاع فبسطت وقالت لوصائفها: خذن بيد سيدكن، وبعل مولاتكن، فأخذن بيده وأجلسنه على الانطاع، بحيث تراه ويراها، وتسمع كلامه ويسمع كلامها، ثم أمرت الجواري فقطعن رواهشه «٢» ، ووضعن الطست بين يديه، فجعلت دماؤه تشخب في الطست فقطرت قطرة على النطع، فقالت لجواريها: لا تضيعوا دم الملك، فقال جذيمة: لا يحزنك دم أراقه أهله. فقالت: والله ما وفى دمك، ولا شفى قتلك، ولكنه «غيض من

<<  <  ج: ص:  >  >>