للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقال الإمام العلامة أبو البقاء العكبري، في شرح المقامات: إن أهل الرس كان بأرضهم جبل يقال له مخ، صاعد في السماء قدر ميل، وكان به طيور كثيرة وكانت العنقاء به وهي عظيمة الخلق لها وجه كوجه الإنسان، وفيها من كل حيوان شبه. وهي من أحسن الطيور، وكانت تأتي هذا الجبل في السنة مرة، فتلتقط طيوره، فجاعت في بعض السنين، وأعوزها الطير فانقضت على صبي فذهبت به، ثم ذهبت بجارية أخرى، فشكوا ذلك إلى نبيهم حنظلة بن صفوان عليه السلام، فدعا عليها فأصابتها صاعقة فاحترقت. وكان حنظلة بن صفوان عليه السلام في زمن الفترة بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام انتهى.

وذكر غيره أن الجبل يقال له فتح وسميت العنقاء لطول عنقها، ثم إنهم قتلوا نبيهم فأهلكهم الله تعالى. وذكر السهيلي، في التعريف والأعلام، في قوله «١» تعالى: وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ

أن البئر هي الرس، وكانت بعدن لأمة من بقايا ثمود وكان لهم ملك عدل حسن السيرة، يقال له العلس، وكانت البئر تسقي المدينة كلها، وباديتها وجميع ما فيها من الدواب والغنم والبقر وغير ذلك، وكانت لهم بركات كثيرة عليها ورجال كثيرون موكلون بها وأوان من رخام، وهي شبه الحياض كثيرة يملأ الناس منها وآخر للدواب، والقوم عليها يستقون الليل والنهار يتداولون ذلك.

ولم يكن لهم ماء غيرها وطال عمر الملك، فلما جاءه الموت، طلوه بدهن لتبقى صورته ولا يتغير، وكذلك كانوا يفعلون بموتاهم، إذا كانوا ممن يكرم عليهم، فلما مات شق عليهم ورأوا أن أمرهم قد فسد، وضجوا بالبكاء، فاغتنمها الشيطان منهم، فدخل في جثة الملك بعد موته بأيام كثيرة وأخبرهم أنه لم يمت ولا يموت أبدا. ثم قال: ولكن تغيبت عنكم حتى أرى صنيعكم.

ففرحوا أشد الفرح، وأمر خاصته أن يضربوا له حجابا بينه وبينهم، ليكلمهم من ورائه كي لا يعرف الموت في صورته. فنصبوه صنما من وراء حجاب، وأخبرهم أنه لا يأكل ولا يشرب ولا يموت أبدا وأنه لهم إله. وكان ذلك كله يتكلم به الشيطان على لسانه، فصدق كثير منهم ذلك وارتاب بعضهم، وكان المؤمن المكذب له أقل من المصدق له، وكان كلما تكلم ناصح منهم زجر وقهر، وفشا الكفر فيهم وأقبلوا على عبادته، فبعث الله إليهم نبيا، كان ينزل الوحي عليه في النوم دون اليقظة، اسمه حنظلة بن صفوان فأعلمهم أن الصورة صنم لا روح له، وأن الشيطان قد أضلهم وأن الله سبحانه لا يمثل بالخلق، وأن الملك لا يجوز أن يكون شريكا لله تعالى، ووعظهم ونصحهم وحذرهم سطوة ربهم ونقمته، فآذوه وعادوه وهو يعظهم وينصح لهم حتى قتلوه وطرحوه في بئر. فعند ذلك حلت عليهم النقمة، فباتوا شباعا رواء من الماء، فأصبحوا والبئر قد غار ماؤها، وتعطلت رشاؤها، فصاحوا بأجمعهم وضج النساء والولدان، وأخذهم العطش وبهائمهم حتى عمهم الموت، وشملهم الهلاك وخلفهم في أرضهم السباع، وفي منازلهم الثعالب والضباع، وتبدلت جناتهم بالسدر وشوك القتاد، فلا يسمع فيها إلا عزيف الجن، وزئير الأسد. نعوذ بالله من سطواته، ومن الاصرار على ما يوجب نقماته.

قال: وأما القصر المشيد، فقصر بناه شداد بن عاد بن أرم، ولم يبن في الأرض مثله فيما

<<  <  ج: ص:  >  >>