للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وإنما قيل: لكل غراب غراب البين، لأنه يسقط في منازلهم إذا ساروا منها وبانوا عنها، فلما كان هذا الغراب لا يوجد إلا عند بينونتهم عن منازلهم، اشتقوا له هذا الاسم من البينونة.

وقال المقدسي، في كشف الأسرار، في حكم الطيور والأزهار، في صفة غراب البين: هو غراب أسود ينوح نوح الحزين المصاب، وينعق بين الخلان والأحباب، إذا رأى شملا مجتمعا أنذر بشتاته، وإن شاهد ربعا عامرا بشر بخرابه، ودروس عرصاته، يعرف النازل والساكن بخراب الدور والمساكن، ويحذر الآكل غصة المآكل، ويبشر الراحل بقرب المراحل، ينعق بصوت فيه تحزين، كما يصيح المعلن بالتأذين وأنشد على لسان حاله:

أنوح على ذهاب العمر مني ... وحقّ أن أنوح وأن أنادي

وأندب كلما عاينت ركبا ... حدا بهمو لو شك البين حادي

يعنفني الجهول إذا رآني ... وقد ألبست أثواب الحداد

فقلت له: اتعظ بلسان حالي ... فإني قد نصحتك باجتهاد

وها أنا كالخطيب وليس بدعا ... على الخطباء أثواب السواد

ألم ترني إذا عاينت ركبا ... أنادي بالنوى في كل ناد

أنوح على الطلول فلم يجبني ... بساحتها سوى خرس الجماد

فأكثر في نواحيها نواحي ... من البين المفتت للفؤاد

تيقظ يا ثقيل السمع وافهم ... إشارة من تسير به العوادي

فما من شاهد في الكون إلا ... عليه من شهود الغيب بادي

وكم من رائح فيها وغاد «١» ... ينادي من دنو أو بعاد

لقد أسمعت لو ناديت حيا ... ولكن لا حياة لمن تنادي

فدل قوله: وقد ألبست أثواب الحداد، وليس بدعا على الخطباء أثواب السواد، أنه أسود. وقوله:

فلم يجبني بساحتها سوى خرس الجماد، أنه يوجد عند مفارقة أهل المواضع لها، وأما قوله: وينغق بين الخلان والأحباب، فهو بالغين المعجمة، عند جمهور أهل اللغة، وهو الذي قاله ابن قتيبة، وجعل غيره خطأ.

ونقل البطليوسي، عن صاحب المنطق، أنه قال: نعق الغراب ونغق. قال: وهو بالغين المعجمة أحسن. وحكى ابن جني مثل ذلك. وقد أحسن الصاحب بهاء الدين زهير وزير الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الملك الكامل محمد بقوله في البين من أبيات:

لقد ظلمتني واستطالت يد النوى ... وقد طمعت في جانبي كل مطمع «٢»

إلى كم أقاسي فرقة بعد فرقة ... وحتى متى يا بين أنت معي معي

وقالت علمنا ما جرى منك بعدنا ... فلا تظلميني ما جرى غير أدمعي

<<  <  ج: ص:  >  >>