وها هن فيه معي. فقال صلى الله عليه وسلم:«ضعهن عنك» . فوضعتهن وأبت أمهن إلا لزومهن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه:«أتعجبون لرحمة أم الفراخ فراخها» ؟ قالوا: نعم يا رسول الله. قال صلى الله عليه وسلم:
«فو الذي بعثني بالحق نبيا لله أرحم بعباده من أم هؤلاء الأفراخ بفراخها، ارجع بهن حتى تضعهن من حيث أخذتهن» . فرجع بهن وأمهن ترفرف عليهن.
وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «١» : «إن لله مائة رحمة قسم منها رحمة في دار الدنيا فبها يعطف الرجل على ولده، والطير على فراخه، فإذا كان يوم القيامة صيرها مائة رحمة فعاد بها على الخلق» . قال أبو أيوب السجستاني: إن رحمة الله قسمها في دار الدنيا وأصابني منها الإسلام، وإني لأرجو من تسع وتسعين رحمة، ما هو أكثر من ذلك.
وروى «٢» مسلم أيضا والنسائي والترمذي، عن ثابت عن أنس رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم عاد رجلا من المسلمين قد خفت، وفي رواية الترمذي: قد جهد فصار مثل الفرخ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:«هل كنت تدعو الله بشيء أو تسأله إياه» ؟ قال: نعم. كنت أقول: اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«سبحان الله لا تطيقه ولا تستطيعه، أفلا قلت: اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار» . قال: فدعا الله به فشفاه.
ومعنى قوله: مثل الفرخ أنه ضعف ونحل جسمه، وخفي كلامه. وتشبيهه له بالفرخ يدل على أنه تناثر أكثر شعره، ويحتمل أن يكون شبهه به لضعفه، والأول أوقع في التشبيه. ومعلوم أن مثل هذا المرض لا يبقى معه شعر ولا قوة. وفي هذا الحديث النهي عن الدعاء بتعجيل العقوبة، وفيه فضل الدعاء باللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، وفيه جواز التعجب بقول: سبحان الله، وقوله صلى الله عليه وسلم:«إنك لا تطيقه» ، يعني أن عذاب الآخرة لا يطيقه أحد في الدنيا لأن نشأة الدنيا ضعيفة لا تحتمل العذاب الشديد، والألم العظيم، بل إذا عظم على الإنسان هلك ومات. وأما نشأة الآخرة، فهي للبقاء إما في النعيم أو العذاب، إذ لا موت، كما قال الله تعالى: في حق الكفار كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ
«٣» نسأل الله العافية في الدنيا والآخرة، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم أرشده إلى أحسن ما يقال لأنها من الدعوات الجوامع التي تتضمن خير الدنيا والآخرة، وذلك أن النكرة في سياق الطلب عامة، فكأنه يقول:
اعطني كل حالة حسنة في الدنيا والآخرة.
وقد اختلفت أقوال المفسرين في الآية اختلافا يدل على عدم التوفيق، وعلى قلة التأمل لوضع الكلمة، فقيل: الحسنة في الدنيا العلم والعبادة، وفي الآخرة الجنة والمغفرة، وقيل:
العافية، وقيل: المال وحسن المآل، وقيل: المرأة الصالحة والحور العين.
والصحيح الحمل على العموم، قال النووي: وأظهر الأقوال في تفسير الحسنة أنها في الدنيا