واحد، أن معاوية بن يزيد لما خلع نفسه صعد المنبر فجلس طويلا، ثم حمد الله وأثنى عليه بأبلغ ما يكون من الحمد والثناء، ثم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، بأحسن ما يذكر به، ثم قال: يا أيها الناس، ما أنا بالراغب في الإئتمار عليكم، لعظيم ما أكرهه منكم، وإني لأعلم أنكم تكرهوننا أيضا لأنا بلينا بكم وبليتم بنا، إلا أن جدي معاوية رضي الله تعالى عنه، قد نازع في هذا الأمر من كان أولى به منه، ومن غيره لقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعظم فضله وسابقته، أعظم المهاجرين قدرا، وأشجعهم قلبا، وأكثرهم علما وأولهم إيمانا، وأشرفهم منزلة، وأقدمهم صحبة، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصهره وأخوه. زوجه صلى الله عليه وسلم ابنته فاطمة، وجعله لها بعلا باختياره لها، وجعلها له زوجة باختيارها له، أبو سبطيه سيدي شباب أهل الجنة وأفضل هذه الأمة تربية الرسول وابني فاطمة البتول، من الشجرة الطيبة الطاهرة الزكية، فركب جدي معه ما تعلمون، وركبتم معه ما لا تجهلون، حتى انتظمت لجدي الأمور، فلما جاءه القدر المحتوم، واخترمته أيدي المنون، بقي مرتهنا بعمله، فريدا في قبره، ووجد ما قدمت يداه، ورأى ما ارتكبه واعتداه، ثم انتقلت الخلافة إلى يزيد أبي فتقلد أمركم لهوى كان أبوه فيه، ولقد كان أبي يزيد بسوء فعله وإسرافه على نفسه، غير خليق بالخلافة على أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فركب هواه واستحسن خطاه، وأقدم على ما أقدم من جراءته على الله، وبغيه على من استحل حرمته، من أولاد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت مدته وانقطع أثره، وضاجع عمله، وصار حليف حفرته رهين خطيئته، وبقيت أوزاره وتبعاته، وحصل على ما قدم وندم حيث لا ينفعه الندم، وشغلنا الحزن له، عن الحزن عليه، فليت شعري ماذا قال وماذا قيل له هل عوقب بإساءته؟ وجوزي بعمله وذلك ظني ثم اختنقته العبرة، فبكى طويلا وعلا نحيبه، ثم قال:
وصرت أنا ثالث القوم والساخط علي أكثر من الراضي، وما كنت لأتحمل آثامكم ولا يراني الله جلّت قدرته متقلدا أوزاركم، وألقاه بتبعاتكم، فشأنكم أمركم فخذوه، ومن رضيتم به عليكم فولوه، فلقد خلعت بيعتي من أعناقكم والسلام.
فقال له مروان بن الحكم، وكان تحت المنبر: أسنة عمرية يا أبا ليلى؟ فقال أغد عني أعن ديني تخدعني؟ فو الله ما ذقت حلاوة خلافتكم فأتجرع مرارتها، ائتني برجال مثل رجال عمر رضي الله تعالى عنه، على أنه ما كان من حين جعلها شورى، وصرفها عمن لا يشك في عدالته ظلوما، والله لئن كانت الخلافة مغنما، لقد نال أبي منها مغرما ومأثما، ولئن كانت سوءا فحسبه منهاما أصابه. ثم نزل فدخل عليه أقاربه وأمه فوجدوه يبكي، فقالت له أمه: ليتك كنت حيضة، ولم أسمع بخبرك. فقال: وددت والله ذلك، ثم قال ويلي إن لم يرحمني ربي.
ثم إن بني أمية قالوا لمؤدبه عمر المقصوص: أنت علمته هذا ولقنته إياه، وصددته عن الخلافة، وزينت له حب علي وأولاده، وحملته على ما وسمنا به من الظلم، وحسّنت له البدع، حتى نطق بما نطق، وقال ما قال. فقال: والله ما فعلته، ولكنه مجبول ومطبوع على حب علي. فلم يقبلوا منه ذلك، وأخذوه ودفنوه حيا حتى مات.
وتوفي معاوية بن يزيد رحمه الله بعد خلعه نفسه، بأربعين ليلة وقيل بسبعين ليلة، وكان عمره ثلاثا وعشرين سنة، وقيل إحدى وعشرين سنة وقيل ثماني عشرة ولم يعقب.