للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

البيوت التي تأوي فيها الملوك، ثم بيوت الذكور التي لا تعمل شيئا. والذكور أصغر جرما من الإناث وهي تكثر المادة داخل الخلية، وإن طارت فهي تخرج بأجمعها وترتفع في الهواء ثم تعود إلى الخلية. والنحل تعمل الشمع أولا، ثم تلقي البزر لأنه لها بمنزلة العش للطير، فإذا ألقته قعدت عليه وحضنته، كما يحضن الطير، فيكون من ذلك البزر دود أبيض، ثم ينهض الدود وتغذي نفسها ثم تطير، وهي لا تقعد على أزهار مختلفة بل على زهر واحد، وتملأ بعض البيوت عسلا وبعضها فراخا، ومن عادتها أنها إذا رأت فسادا من ملك، إما أن تعزله وإما أن تعزله وإما أن تقتله، وأكثر ما تقتل خارج الخلية. والملوك لا تخرج إلا مع جميع النحل، فإذا عجز الملك عن الطيران، حملته.

وسيأتي إن شاء الله تعالى بيان ذلك، في آخر الكتاب، في لفظ اليعسوب.

ومن خصائص الملك أنه ليس له حمة يلسع بها، وأفضل ملوكها الشقر، وأسوؤها الرقط بسواد. والنحل تجتمع فتقسم الأعمال فبعضها يعمل العسل، وبعضها يعمل الشمع، وبعضها يسقي الماء، وبعضها يبني البيوت، وبيوتها من أعجب الأشياء لأنها مبنية على الشكل المسدس الذي لا ينحرف، كأنه استنبط بقياس هندسي. ثم هو في دائرة مسدسة، لا يوجد فيها اختلاف، فبذلك اتصلت حتى صارت كالقطعة الواحدة، وذلك لأن الأشكال من الثلاث إلى العشر، إذا جمع كل واحد منها إلى أمثاله لم يتصل، وجاءت بينها فروج، إلا الشكل المسدس، فإنه إذا جمع إلى أمثاله اتصل، كأنه قطعة واحدة وكل هذا بغير مقياس منها ولا آلة ولا بركار، بل ذلك من أثر صنع اللطيف الخبير وإلهامه إياها، كما قال: وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ

الآية «١» .

فتأمل كمال طاعتها وحسن امتثالها لأمر ربها، كيف اتخذت بيوتا في هذه الأمكنة الثلاثة الجبال والشجر وبيوت الناس حيث يعرشون؛ أي حيث يبنون العروش، فلا ترى للنحل بيتا في غير هذه الأمكنة الثلاثة البتة. وتأمل كيف كانت أكثر بيوتها في الجبال، وهي المتقدمة في الآية ثم الأشجار وهي دون ذلك، ثم فيما يعرش الناس وهي أقل بيوتها. فانظر كيف أداها حسن الامتثال إلى أن اتخذت البيوت قبل المرعى. فهي تتخذها أولا، فإذا استقر لها بيت خرجت منه فرعت وأكلت من الثمرات، ثم أوت إلى بيوتها، لأن ربها سبحانه وتعالى أمرها باتخاذ البيوت أولا، ثم الأكل بعد ذلك، وقال في الإحياء: انظر إلى النحل كيف أوحى الله إليها، حتى اتخذت من الجبال بيوتا، وكيف استخرج من لعابها الشمع والعسل، وجعل أحدهما ضياء والآخر شفاء.

ثم لو تأملت عجائب أمرها في تناولها الأزهار والأنوار، واحترازها من النجاسات والأقذار، وطاعتها لواحد من جملتها، وهو أكبرها شخصا وهو أميرها، ثم ما سخر الله لأميرها من العدل والانصاف بينها، حتى إنه ليقتل منها على باب المنفذ، كل ما وقع منها على نجاسة، لقضيت من ذلك العجب، إن كنت بصيرا في نفسك، وفارغا من هم بطنك وفرجك، وشهوات نفسك، في معاداة أقرانك، وموالاة إخوانك.

ثم دع عنك جميع ذلك، وانظر إلى بنيانها بيتا من الشمع، واختيارها من جميع الأشكال،

<<  <  ج: ص:  >  >>