للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

انكسرت له أحداهما، استعان بالأخرى في نهوضه وحركته، ما خلا النعامة فإنها تبقى في مكانها جاثمة حتى تهلك جوعا قال «١» الشاعر:

إذا انكسرت رجل النعامة لم تجد ... على أختها نهضا ولا بأستها حبوا

وليس للنعام حاسة السمع، ولكن له شم بليغ، فهو يدرك بأنفه، ما يحتاج فيه إلى السمع، فربما شم رائحة القناص من بعد، ولذلك تقول العرب: «هو أشم «٢» من نعامة» ، كما تقول: «هو أشم «٣» من ذرة» . قال ابن خالويه، في كتابه: ليس في الدنيا حيوان لا يسمع ولا يشرب الماء أبدا إلا النعام. ولا مخ له ومتى دميت رجل واحدة له لم ينتفع بالباقية. والضب أيضا لا يشرب، ولكنه يسمع. ومن حمقها أنها إذا أدركها القناص أدخلت رأسها في كثيب رمل، تقدر أنها قد استخفت منه، وهي قوية الصبر على ترك الماء، وأشد ما يكون عدوها إذا استقبلت الريح، وكلما اشتد عصوفها، كانت أشد عدوا وتبتلع العظم الصلب والحجر والمدر والحديد فتذيبه وتميعه كالماء.

قال الجاحظ: من زعم أن جوف النعام إنما يذيب الحجارة، لفرط الحرارة، فقد أخطأ.

ولكن لا بد مع الحرارة من غرائز أخر، بدليل أن القدر يوقد عليها الأيام ولا تذيب الحجارة. وكما أن جوفي الكلب والذئب يذيبان العظم، ولا يذيبان نوى التمر، وكما أن الإبل تأكل الشوك وتقتصر عليه، وإن كان شديدا كالسمر، وهو شجر أم غيلان، وتلقيه روثا، وإذا أكلت الشعير ألقته صحيحا انتهى.

وإذا رأت النعامة في أذن صغير لؤلؤة أو حلقة اختطفتها. وتبتلع الجمر فيكون جوفها هو العامل في إطفائه ولا يكون الجمر عاملا في إحراقه، وفي ذلك أعجوبتان إحداهما التغذي بما لا يتغذى به، والثانية الاستمراء والهضم، وهذا غير منكر، لأن السمندل يبيض ويفرخ في النار كما تقدم. وأما قول الحريري في المقامة السادسة: فقلدوه في هذا الأمر الزعامة، تقليد الخوارج أبا نعامه. فأبو نعامة هو قطري بن الفجاءة واسمه جعونة بن مازن المازني الخارجي، خرج زمن مصعب بن الزبير فبقي عشرين سنة يقاتل ويسلم عليه بالخلافة، وكان كلما سير إليه الحجاج جيشا يستظهر قطري عليه. ويروى أن شخصا قال للحجاج: أيها الأمير، فقال الحجاج: إنما الأمير قطري بن الفجاءة، الذي إذا ركب، ركب لركوبه عشرون ألفا لا يسألونه أين يريد! وكان قطري مقداما لا يهاب الموت، وفي ذلك يقول مخاطبا لنفسه وهي من أبيات الحماسة «٤» :

أقول لها وقد طارت شعاعا ... من الأبطال ويحك لا تراعي

لأنك لو سألت بقاء يوم ... على الأجل الذي لك لم تطاعي

فصبرا في مجال الموت صبرا ... فما نيل الخلود بمستطاع

ولا ثوب البقاء بثوب عزّ ... فيطوى عن أخي الخنع اليراع

<<  <  ج: ص:  >  >>