يوم موت أخيه بعهد منه فأمر بهدم ما بنوا من طوانة وغزا عمورية وأناخ عليها وحاصرها حصارا شديدا. ولم يكن في بني العباس مثله في القوة والشجاعة والإقدام قيل إنه أصبح ذات يوم برد عظيم وثلج فلم يقدر أحد على إخراج يده ولا امساك قوسه فأوتر المعتصم في ذلك اليوم أربعة آلاف قوس، ولم يزل يحاصرها حتى فتحها عنوة واحتوى على ما فيها من الأموال وغيرها، وأخذ أهلها أسرى.
ولما ولي طلب الإمام أحمد، وكان في سجن المأمون كما تقدم، وامتحنه بخلق القرآن كما سنذكره إن شاء الله تعالى. وتلخيص ما كان من أمره أن هارون الرشيد لم يقل بخلق القرآن مدة خلافته، ولهذا السبب كان الفضيل بن عياض يتمنى طول عمر الرشيد، لأنه والله أعلم، كان قد كشف له بأن فتنة تحدث بعد موت الرشيد، ولم تحدث في أيام خلافته فتنة، ولكن كان الأمر في زمن ولايته بين أخذ وترك، كما قدمنا قريبا إلى أن ولي ابنه المأمون، فقال بخلق القرآن، وبقي يقدم رجلا ويؤخر أخرى في دعواه الناس إلى ذلك، إلى أن قوي عزمه في السنة التي مات فيها، فمل الناس على القول بخلق القرآن. وكل من لم يقل بخلقه عاقبه أشد عقوبة. وإنه طلب الإمام أحمد بن حنبل، وجماعة فحمل إليه الإمام أحمد فلما كان ببعض الطريق، توفي المأمون وعهد إلى أخيه المعتصم بالخلافة وأوصاه بأن يحمل الناس على القول بخلق القرآن، واستمر الإمام أحمد محبوسا إلى أن بويع المعتصم، فأحضر الإمام أحمد إلى بغداد، وعقد له مجلسا للمناظرة وفيه عبد الرحمن بن إسحاق، والقاضي أحمد بن أبي دؤاد، وغيرهما فناظروه ثلاثة أيام، ولم يزل معهم في جدال، إلى اليوم الرابع، فأمر بضربه، فضرب بالسياط ولم يزل عن الصراط، إلى أن أغمي عليه، ونخسه عجيف بالسيف، ورمي عليه بارية وديس عليه، ثم حمل وصار إلى منزله وكانت مدة مكثه في السجن ثمانية وعشرين شهرا، ولم يزل بعد ذلك يحضر الجمعة والجماعات ويفتي ويحدث إلى أن مات المعتصم وولي الواثق، فأظهر ما أظهره المأمون والمعتصم من المحنة، وقال للإمام أحمدا: لا تجمعن إليك أحدا ولا تساكني في بلد أنا فيه، فأقام الإمام أحمد مختفيا، لا يخرج إلى صلاة ولا غيرها، حتى مات الواثق وولي المتوكل، فرفع المحنة وأمر بإحضار الإمام أحمد، وإكرامه وإعزازه وأطلق له مالا كثيرا فلم يقبله، وفرقه على الفقراء والمساكين. وأجرى المتوكل على أهله وولده في كل شهر أربعة آلاف درهم، فلم يرضى الإمام أحمد بذلك رحمه الله تعالى وذكر العراقي في مجمع الأخبار وغيره أنه نوظر في الأيام الثلاثة، وأن المعتصم كان يخلو به ويقول له:
ويحك يا أحمد أنا والله عليك شفيق، وإني لا شفق عليك مثل شفقتي على ابني هارون يعني الواثق فأجبني فو الله لئن أجبتني لاطلقن غلك بيدي، ولا طأن عتبتك، ولأركبن إليك بجندي. فيقول:
يا أمير المؤمنين أعطوني شيئا من كتاب الله تعالى أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا طال به المجلس، ضجر وقام ورد أحمد في الموضع الذي كان فيه. وتتردد إليه رسل المعتصم يقولون: يا أحمد، أمير المؤمنين يقول لك: ما تقول في القرآن؟ فيرد عليهم كما رد أولا. فلما كان في اليوم الثالث، طلب للمناظرة فأدخل على المعتصم، وعنده محمد بن عبد الملك الزيات، والقاضي أحمد بن أبي دؤاد، فقال المعتصم: كلموه وناظروه فلم يزالوا في جدال إلى أن قالوا: يا أمير المؤمنين اقتله ودمه في أعناقنا. فرفع المعتصم يده ولطم بها وجه الإمام أحمد، فخر مغشيا عليه، فتمعرت وجوه قواد خراسان، وكان عم أحمد فيهم، فخاف الخليفة منهم على نفسه فدعا بماء ورش على وجهه، فلما