ولنعد إلى ذكر السلطان محمود، قال ابن الأثير: بلغ من عدل نور الدين الشهيد، أنه أوّل من بنى دارا لكشف الظلامات، وسماها دار العدل، وسببه أنه لما أقام بدمشق بأمرائه وفيهم أسد الدين «١» شيركوه، تعدى كل منهم على من جاوره، فكثرت الشكاوى إلى القاضي كمال الدين السّهروردي «٢» ، فأنصف بعضهم من بعض، ولم يقدر على الإنصاف من شيركوه، لأنه كان أكبر الأمراء فبلغ ذلك نور الدين الشهيد، فأمر ببناء دار العدل، فلما سمع شيركوه قال لنوّابه: ما بنى نور الدين هذه الدار إلا بسببي، وإلا فمن يمتنع على القاضي كمال الدين؟ والله لئن أحضرت إلى دار العدل بسبب أحد منكم لأصلبنه! فامضوا إلى كل من كان بينكم وبينه شيء فافصلوا الحال معه، وأرضوه، ولو أتى على جميع ما بيدي. قال: فظلم رجل بعد موت نور الدين الشهيد فشق ثوبه واستغاث: يا نور الدين فاتصل خبره بالسلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، فأزال ظلامته فبكى الرجل أشد من الأول، فسئل عن ذلك فقال: أبكي على سلطان عدل فينا بعد موته.
وتوفي نور الدين الشهيد في شوّال سنة تسع وستين وخمسمائة بقلعة دمشق بعلة الخوانيق، وكان الأطباء قد أشاروا عليه بالفصد فامتنع، وكان مهيبا فما روجع ودفن بالقلعة. ثم نقل إلى تربته بمدرسته التي أنشأها عند باب سوق الخوّاصين. والدعاء عند قبره مستجاب وقد جرب، وكان رحمه الله، ملكا عادلا عابدا ورعا متمسكا بالشريعة، مائلا إلى أهل الخير مجاهدا، كثير الصدقات بنى المدارس بجميع بلاد الشأم، والمارستان بدمشق، ودار الحديث بها وبنى بمدينة الموصل الجامع النوري، وبحماة الجامع الذي على نهر العاصي، وبني الرباطات للصوفية والفنادق في المنازل، وأثر في الإسلام آثارا حسنة لم يسبق إليها وانتزع من أيدي الكفار نيفا وخمسين مدينة، ومحاسنه كثيرة رحمه الله تعالى.
وتوفي السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب في صفر سنة تسع وثمانين وخمسمائة بها، قال «٣» ابن خلكان: ولما مات كتب القاضي الفاضل «٤» ساعة موته بطاقة إلى ولده الملك الظاهر صاحب حلب، مضمونها: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة إن زلزلة الساعة شيء عظيم، كتبت إلى مولانا السلطان الملك الظاهر أحسن الله عزاءه، وجبر مصابه، وجعل فيه الخلف في الساعة المذكورة وقد زلزل المسلمون زلزالا شديدا وقد حفرت الدموع المحاجر، وبلغت القلوب الحناجر، وقد ودّعت أباك مخدومي وداعا لا تلاقي بعده وقبلت عني وعنك خده وأسلمته إلى الله عز وجل مغلوب الحيلة، ضعيف القوّة راضيا عن الله ولا حول ولا قوّة إلا بالله، وبالباب من الأجناد المجندة والأسلحة والأعمدة ما لا يردّ البلاء، ولا يملك دفع القضاء وتدمع العين ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يرضي الرب وإنا عليك لمحزونون يا يوسف، وأما الوصايا فلا