للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

بإسمك أللهم فاطر السموات والأرض، وصلى الله على السيد المسيح روح الله وكلمته الرسول الفصيح.

أما بعد: فإنه لا يخفى على ذي ذهن ثاقب، ولا ذي عقل لازب، أنك أمير الملة الحنيفية، كما أني أمير الملة النصرانية، وقد عملت الآن ما عليه رؤساء الأندلس من التخاذل، والتواكل والتكاسل، واهمالهم أمر الرعية، واخلادهم إلى الراحة والأمنية، وأنا أسوسهم بحكم القهر وجلاء الديار، وأسبي الذراري وامثل بالرجال، وأذيقهم عذاب الهون وشديد النكال، ولا عذر لك في التخلف عن نصرتهم إذا أمكنتك يد القدرة، وساعدك من عساكرك وجنودك ذو رأي وخبرة، وأنتم تزعمون أن الله تعالى قد فرض عليكم قتال عشرة منا بواحد منكم، والآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا رحمة منه ومنا، ونحن الآن نقاتل عشرة منكم بواحد منا لا تستطيعون دفاعا، ولا تملكون امتناعا، وقد حدثنا عنك إنك أخذت في الاحتفال، وأشرفت على ربوة القتال، وتماطل نفسك سنة بعد أخرى، وتقدم رجلا وتؤخر أخرى، فلا أدري أكان الجبن أبطأ بك، أم التكذيب بوعد ربك؟ ثم قيل لي: إنك لا تجد إلى جواز البحر سبيلا، ولعله لا يسوغ لك التقحم فيه سبيلا، وها أنا أقول لك، ما فيه الراحة لك، واعتذر عنك ولك، على أن تفي بالعهود والمواثيق، والاستكثار من الرهان، وترسل إلي جملة من عبيدك بالمراكب والشواني، والطرائد والمسطحات، وإلا جزت بجملتي إليك، فأقاتلك في أعز الأماكن لديك، فإن كانت لك فغنيمة كبيرة جلبت إليك، وهدية عظيمة مثلت بين يديك وإن كانت لي كانت لي اليد العليا عليك، واستحقيت إمارة الملتين، والحكم على البرين، والله يوفق للسعادة، ويسهل الإرادة لا رب غيره، ولا خير إلا خيره.

فمزق يعقوب الكتاب وكتب على قطعة منه ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها، وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ

«١» الجواب ما ترى لا ما تسمع واستشهد ببيت المتنبي:

ولا كتب إلا المشرفيّة عنده ... ولا رسله إلا الخميس العرموم «٢»

ثم أمر بكتب الاستنفار، واستدعى الجيوش من الأمصار، وضربت السرادقات من يومه بظاهر البلد، وسار إلى البحر المعروف بزقاق سبته فعبر فيه إلى الأندلس، ودخل بلاد الفرنج فكسرهم كسرة شنيعة، وعاد بغنائمهم. وكان الأمير يعقوب متمسكا بالشرع يأمر بالمعروف، ويقيم الحدود في أهل بيته، كما يقيمها في الناس أجمعين وأمر برفض فروع الفقه، وأن الفقهاء لا يفتون إلا بالكتاب العزيز والسنة النبوية، ولا يقلدون أحدا، وأن تكون أحكامهم بما يؤدّي إليه اجتهادهم، من استنباطهم القضايا من الكتاب والحديث، والإجماع والقياس.

وقد وصل إلينا من المغرب جماعة على تلك الطريقة منهم: أبو عمرو وأبو الخطاب ابنا دحية ومحيي الدين بن عربي الصوفي، «صاحب الفصوص» . «والفتوحات المكية» . «وعنقاء مغرب» . وغيرهم. وتوفي الأمير يعقوب في سنة تسع أو عشر وستمائة رحمة الله تعالى عليه.

<<  <  ج: ص:  >  >>