أقول لبيك اللهم لبيك، فيقول: لا لبيك ولا سعديك، فشجعوه قالوا: لا بد من التلبية، فلما لبى غشي عليه حتى سقط عن راحلته. وكان يصلي في كل يوم وليلة ألف ركعة، وكان كثير الصدقات، وكان أكثر صدقته بالليل، وكان يقول:«صدقة الليل تطفىء غضب الرب» وكان كثير البكاء، فقيل له في ذلك فقال: إن يعقوب عليه السلام بكى حتى ابيضت عيناه على يوسف، ولم يتحقق موته، فكيف لا أبكي وقد رأيت بضعة عشر رجلا يذبحون من أهلي في غداة واحدة؟
وكان إذا خرج من منزله قال: اللهم إني أتصدق اليوم أو أهب عرضي اليوم لمن يغتابني. ومات لرجل ولد مسرف على نفسه، فجزع عليه، فقال له علي بن الحسين إن من وراء ولدك خلالا ثلاثة: شهادة أن لا إله إلا الله، وشفاعة رسول الله، ورحمة الله. واختلف أهل التاريخ في السنة التي توفي فيها زين العابدين والمشهور عند الجمهور أنه توفي سنة أربع وتسعين في أولها. وقال ابن الفلاس: وفيها مات سعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، وعروة بن الزبير، وأبو بكر بن عبد الرحمن. وقال بعضهم: توفي في سنة اثنتين أو ثلاث وتسعين. وأغرب المدائني في قوله إنه توفي سنة مائة وقيل توفي في سنة تسع وتسعين. وكان عمره ثمانيا وخمسين سنة، ودفن في قبر عمه الحسن رضي الله عنهما، وعن آبائهم الكرام، وعن أصحاب رسول الله أجمعين. وفي وفيات الأعيان في ترجمة جلال الدولة ملك شاه أن المقتدي بأمر الله، جهز الشيخ أبا إسحاق الشيرازي الفيروز أبادي، صاحب التنبيه والمهذب وغيرهما، إلى نيسابور سفيرا له، في خطبة ابنة الملك جلال الدولة فنجز الشغل، وناظر إمام الحرمين هناك، فلما أراد الانصراف من نيسابور، خرج إمام الحرمين إلى وداعه، وأخذ بركابه حتى ركب أبو إسحاق بغلته، وظهر له في خراسان منزلة عظيمة، وكانوا يأخذون التراب الذي وطئته بغلته فيتبركون به. وكان رحمه الله إماما عالما عاملا ورعا زاهدا عابدا. توفي في سنة ست وسبعين وأربعمائة، وتوفي إمام الحرمين في سنة ثمان وسبعين وأربعمائة وغلقت الأسواق يوم موته، وكسر منبره بالجامع، وكانت تلامذته قريبا من أربعمائة نفر، فكسروا محابرهم وأقلامهم وأقاموا على ذلك عاما كاملا. وفي تاريخ بغداد ووفيات الأعيان أن أبا حنيفة كان له جار اسكافي يعمل نهاره فإذا رجع إلى منزله ليلا تعشى ثم شرب فإذا دب الشراب فيه أنشد يغني ويقول:«١»
أضاعوني وأيّ فتى أضاعوا ... ليوم كريهة وسداد ثغر
ولا يزال يشرب ويردد هذا البيت، حتى يأخذه النوم وأبو حنيفة يسمع جلبته كل ليلة.
وكان أبو حنيفة يصلي الليل كله ففقد أبو حنيفة صوته، فسأل عنه فقيل له: أخذه العسس منذ ليال، فصلى أبو حنيفة الفجر من غده، ثم ركب بغلته وأتى دار الأمير، فاستأذن عليه فقال:
ائذنوا له وأقبلوا به راكبا ولا تدعوه ينزل حتى يطأ البساط، ففعل به ذلك، فوسع له الأمير من مجلسه، وقال له: ما حاجتك؟ فشفع في جاره. فقال الأمير: اطلقوه وكل من أخذ في تلك الليلة إلى يومنا هذا فأطلقوهم أيضا فذهبوا فركب أبو حنيفة بغلته، وخرج والإسكافي معه يمشي وراءه، فقال له أبو حنيفة: يا فتى هل أضعناك؟ فقال: بل حفظت ورعيت، فجزاك الله خيرا عن حرمة الجوار. ثم تاب الرجل ولم يعد إلى ما كان يفعل. واسم أبي حنيفة النعمان بن ثابت بن زوطى بن