للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

بمقدار شوقه. ليس هذا موضع حكاية أقوالهم، واختلاف عباراتهم فيها، وقد بسطنا الكلام في ذلك في كتابنا الجوهر الفريد في أواخر الجزء الثامن، ولنذكر لمعة يستأنس بها الناظر، في هذا الكتاب. فاعلم أن المحبة على الإجمال موافقة المحبوب فيما شاء سواء فيما حزن أو سر، نفع أو ضر، وقد أشار بعضهم إلى ذلك بقوله «١» :

وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي ... متأخر عنه ولا متقدم

أجد الملامة في هواك لذيذة ... حبا لذكرك فليلمني اللوّم

أشبهت أعدائي فصرت أحبهم ... إذ كان حظي منك حظي منهم

فأهنتني فأهنت نفسي صاغرا ... ما من يهون عليك ممن يكرم «٢»

واعلم أن الغيرة من أوصاف المحبة، والغيرة تأبى الستر والإخفاء، فكل من بسط لسانه في العبارة عنها والكشف عن سرها فليس له منها ذوق، وإنما حركه وجدان الرائحة، ولو ذاق منها شيئا لغاب عن الشرح والوصف. فالمحبة الصادقة لا تظهر على المحب بلفظه، وإنما تظهر بشمائله ولحظه، ولا يفهم حقيقتها من المحب سوى المحبوب، لموضع امتزاج الأسرار من القلوب، وقد قيل في ذلك:

تشير فأدري ما تقول بطرفها ... وأطرق طرفي عند ذاك فتفهم

تكلم منا في الوجوه عيوننا ... فنحن سكوت والهوى يتكلم

وأما محبة العوام، فهي محبة تنبت من مطالعة المنة، وتثبت باتباع السنة، وتنمو على الإجابة للغاية، وهي محبة تقطع الوساوس، وتلذذ الخدمة، وتسلي عن المصائب، وهي في طريق العوام عمدة الإيمان فعند القوم كل ما كان من العبد، فهو علة تليق بعجز العبد وفاقته. وإنما عين الحقيقة أن يكون العبد قائما بإقامة الحق له، محبا بمحبته له نظارا بنظره إليه من غير أن تبقى فيه بقية تقف على رسم، أو تناط باسم، أو تتعلق بأثر، أو توصف بنعت، أو تنسب إلى وقت، صم بكم عمي لدينا محضرون.

وروي: عن إبراهيم الخواص، رحمة الله عليه، أنه قال: عطشت، في بعض سياحاتي، عطشا شديدا، حتى سقطت من شدة العطش، فإذا أنا بماء قد سقط على وجهي، فأحسست ببرده على فؤادي، ففتحت عيني فإذا أنا برجل ما رأيت أحسن منه على جواد أشهب، عليه ثياب خضر وعمامة صفراء، وبيده قدح، فسقاني منه شربة، وقال لي: ارتدف خلفي فارتدفت، فلم يبرح حتى قال لي: ما ترى؟ قلت: المدينة. قال: انزل واقرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم مني السلام وقل له:

رضوان خازن الجنة يقرأ عليه السلام. وهذه كرامة عظيمة، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم. قال شيخنا اليافعي: من رأيتموه يزدري بالأولياء، أو ينكر مواهب الأصفياء، فاعلموا أنه محارب لله مبعد من رحمته مطرود عن حقيقة قربه به والله أعلم.

<<  <  ج: ص:  >  >>