إن الطبيب بطبه ودوائه ... لا يستطيع دفاع نحب قد أتى
ما للطبيب يموت بالداء الذي ... قد كان يبرىء مثله فيما مضى
وبلغه أن الناس قد أرجفوا بموته، فاستدعى بحمار وأمر فحمل عليه، فاسترخت فخذاه فقال: أنزلوني صدق المرجفون. ثم استدعى بأكفان فتخير منها ما أعجبه، وأمر فشق له قبر أمام فراشه، ثم اطلع فيه فقال: ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ
«١» فتوفي في يومه رحمه الله تعالى. وفي تاريخ ابن خلكان أن بعض أصحاب الحلاج «٢» ادّعى أنه رؤي يوم قتله وهو راكب على حمار في طريق النهروان وأنه قال لهم: لعلكم تظنون أني المضروب والمقتول؟ وكان سبب قتله أنه جرى منه كلام في مجلس حامد بن العباس وزير المقتدر بالله فأفتى القضاة والعلماء بإباحة دمه فرسم المقتدر بتسليمه إلى محمد بن عبد الصمد صاحب الشرطة فتسلمه بعد العشاء خوفا من العامة أن تنزعه من يده، ثم أخرجه يوم الثلاثاء لست بقين من ذي القعدة سنة تسع وثلاثمائة عند باب الطاق واجتمع عليه خلق كثير. وأمر به فضربه الجلاد ألف سوط، فما استعفى ولا تأوّه ثم قطع أطرافه الأربعة، وهو ساكن لا يضطرب، ثم حز رأسه وأحرقت جثته وألقي رمادها في دجلة، ونصب الرأس ببغداد، ثم حمل وطيف به في النواحي والبلاد وجعل أصحابه يعدون أنفسهم برجوعه بعد أربعين يوما. واتفق إن زادت دجلة تلك السنة زيادة وافرة، فادعى أصحابه أن ذلك بسبب إلقاء رماده فيها. وادعى بعض أصحابه أنه لم يقتل وإنما ألقي شبهه عند قتله على عدوّ له ولما أخرج ليقتل أنشد قائلا «٣» :
طلبت المستقر بكل أرض ... فلم أر لي بأرض مستقرّا
أطعت مطامعي فاستعبدتني ... ولو أني قنعت لكنت حرّا
ويحكى أن الحلاج أنشد عند قتله:
لم أسلم النفس للأسقام تتلفها ... إلا لعلمي بأن الموت يشفيها
ونظرة منك يا سؤلي ويا أملي ... أشهى إلي من الدنيا وما فيها
نفس المحب على الآلام صابرة ... لعل متلفها يوما يداويها
وكان الحلاج قد صحب الجنيد ووقع بينه وبين الشبلي وغيره من مشايخ الصوفية رحمة الله تعالى عليهم أجمعين انتهى. وذكر الشيخ الإمام عز الدين بن عبد السلام المقدسي في مفاتيح الكنوز أنه لما أتي به ليصلب ورأى الخشب والمسامير ضحك ضحكا كثيرا ثم نظر في الجماعة فرأى الشبلي فقال: يا أبا بكر أما معك سجادة قال: بلى. قال: افرشها لي ففرشها فتقدم وصلى ركعتين فقرأ في الأولى فاتحة الكتاب، وبعدها: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ
«٤» الآية ثم قرأ في الثانية فاتحة الكتاب وبعدها: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ*