فبعث إلى جميع الكهان والسحرة والمنجمين من رعيته، فاجتمعوا إليه فقال: إني رأيت رؤيا هالتني، وفظعت منها! فقالوا: قصها علينا نخبرك بتأويلها! فقال لهم: إن أخبرتكم بها لم أطمئن إلى خبركم في تأويلها، ولست أصدق في تأويلها إلا من عرفها قبل أن أخبره بها. فقال بعضهم لبعض: إن هذا الذي يرومه الملك لا يجده إلا عند شق وسطيح! فلما أخبروه بذلك، أرسل الملك من أتاه بهما، فسأل سطيحا فقال: أيها الملك إنك رأيت جمجمة خرجت من ظلمة، فأكلت كل ذات جمجمة! فقال الملك: ما أخطأت شيئا فما عندك في تأويلها؟ فقال سطيح: احلف بما بين الحرتين من حنش، ليهبطن أرضكم الحبش، وليملكن ما بين أبين إلى جرش. فقال الملك:
وأبيك يا سطيح، إن هذا لنا لغائظ موجع، فمتى يكون ذلك أفي زماني أم بعده؟ فقال: بل بعده بحين أكثر من ستين أو سبعين تمضين من السنين، ثم يقتلون ويخرجون منها هاربين. قال الملك:
ومن الذي يلي ذلك؟ من قتلهم إخراجهم؟ قال: يليه ابن ذي يزن، يخرج عليهم من عدن، فلا يترك أحدا منهم باليمن. قال: أفيدوم ذلك من سلطانه أم ينقطع؟ قال: بل ينقطع. قال: ومن يقطعه؟ قال: نبي زكي، يأتيه الوحي من ربه العلي، قال: وممن هذا النبي؟ قال: من ولد غالب بن فهر بن مالك بن النضر «١» ، يكون الملك في قومه إلى آخر الدهر. فقال الملك: وهل للدهر من آخر يا سطيح؟ قال: نعم، يوم يجمع فيه الأولون والآخرون، ويسعد فيه المحسنون ويشقى فيه المسيؤون. فقال الملك: أحق ما تقول يا سطيح؟ قال: نعم، والشفق والغسق، والقمر إذا اتسق، إن ما أخبرتكم به لحق.
ثم إن الملك أحضر شقا فسأله كما سأل سطيحا فقال له شق: إنك رأيت جمجمة خرجت من ظلمة، فوقعت بين روضة وأكمة، فأكلت كل ذات نسمة. فلما سمع الملك مقالة شق، قال له: ما أخطأت شيئا. فما عندك في تأويلها؟ فقال شق: أحلف بما بين الحرتين من إنسان، لينزلن أرضكم السودان، وليغلبن على كل طفلة البنان، وليملكن ما بين أبين إلى نجران. فقال الملك:
وأبيك يا شق، إن ذلك لنا لغائظ مؤلم! فمتى يكون ذلك، أفي زماني أم بعده؟ فقال: بل بعده بزمان. ثم يستنقذكم منه عظيم الشأن، ويذيقهم أشد الهوان. فقال الملك: من هو العظيم الشان؟ قال: غلام من غلمان اليمن، يخرج من بيت ذي يزن. فقال الملك: أفيدوم ذلك من سلطانه أم ينقطع؟ قال: بل ينقطع برسول، هو خاتم الرسل، يأتي بالحق والعدل بين أهل الدين والفضل، يكون الملك في قومه إلى يوم الفصل. فقال الملك: وما يوم الفصل؟ فقال شق: يوم يجزى فيه الولاة، ويدعى من السماء دعوات، يسمعها الأحياء والأموات، ويجمع الناس فيه للميقات، فيفوز فيه الصالحون بالخيرات. فقال الملك: أحق ما تقول يا شق؟ قال: أي ورب السماء والأرض وما بينهما، من رفع وخفض، إن ما أنبأتكم به لحق ماله من نقض. فوقع ذلك في نفس الملك، لما رأى من تطابق شق وسطيح، على ما ذكراه. فجهز أهل بيته إلى الحيرة فرقا من سلطان الحبشة.
وروي عنه، أنه لما كانت الليلة التي ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ارتجس فيها إيوان كسرى،