للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وسقط منه أربع عشرة شرافة، فجزع كسرى أنوشروان من ذلك وتطير، ورأى أن لا يكتمه عن زعماء مملكته، فأحضر موبذموبذان، وهو رئيس حكمائهم، وعنه يأخذون نواميس شرائعهم، وأحضر الموابذة، وهم القضاة، والهرابذة وهم كالخلفاء للموابذة، والأصبهبذ، وهو حافظ الجيوش وأمير الأمراء، وأحضر بزر جمهر مداره، وهو الوزير الأعلى، والمرازبة وهم حفظة الثغور وولاة المملكة، وأخبرهم بما كان من ارتجاس الإيوان وسقوط ما سقط من شرفاته.

فقال رئيس الموابذة: إني رأيت في المنام، كأن إبلا تقود خيلا قد قطعت دجلة، وانتشرت في بلاد فارس. وأخبره في ذلك الوقت قومه بالنار وخمودها تلك الليلة. فهاله ومن حضر مجلسه، ذلك واستعظموه ولم يظهر لهم وجهه، ففزعوا وتفرقوا عن الملك يتروّون فيه.

ووافت البرد إلى كسرى، من جميع جهات ممالكه، تخبر بخمود النيران تلك الليلة، ووافاه الخبر بأن بحيرة ساوة قد غاض ماؤها فجمع زعماء دينه ورؤساء سلطانه، فأطلعهم على ما انتهى إليه من ذلك كله، وسألهم عما عندهم فيه؟ فقال موبذموبذان: أما رؤياي، فتدل على حدث عظيم يكون من العرب. فكتب كسرى إلى النعمان بن المنذر، يأمره أن يبعث إليه أعلم من في أرضه من العرب، فبعث إليه عبد المسيح بن عمرو الغساني «١» وكان معمّرا، فلما قدم على كسرى، قال له: هل عندك علم مما أريد أن أسألك عنه؟ قال: يخبرني الملك عما يريد علمه، فإن كان عندي علم منه أخبرته! فقال أنوشروان: إنما أريد من يعلم أمري قبل أن أذكره له! فقال عبد المسيح: هذا علم يعلمه خال لي يسكن بمشارق الشام يقال له سطيح. قال كسرى: فاذهب إليه فانطلق عبد المسيح حتى انتهى إلى سطيح فوجده قد أشفى على الموت فحياه فلم يجبه فقال «٢» عبد المسيح رافعا صوته:

أصمّ أم يسمع غطريف اليمن ... يا صاحب الخطة أعيت من ومن

ففتح سطيح عينيه، وقال: عبد المسيح على جمل مشيح، وافى إلى سطيح، وقد أشفى على الضريح، بعثك ملك بني ساسان لارتجاس الإيوان، وخمود النيران، ورؤيا الموبذان، رأى إبلا صعابا، تقود خيلا عرابا، قد قطعت دجلة وانتشرت في بلاد فارس. يا عبد المسيح، إذا ظهرت التلاوة وبعث صاحب الهراوة، وغاضت بحيرة ساوة، لم تكن بابل للفرس مقاما، ولا الشام لسطيح شاما، وسيملك منهم ملوك وملكات على عدد الشرافات، وكل ما هو آت آت ثم قضى سطيح مكانه. فاستوى عبد المسيح على راحلته، وعاد إلى كسرى فأخبره بمقالة سطيح. فقال كسرى: إلى أن يملك منا أربعة عشرة، تكون أمور. فملك منهم عشرة في مدة أربع سنين، وملك الباقون إلى أواخر خلافة عثمان رضي الله تعالى عنه. انتهى.

وبابل هي بابل العراق، وسميت ببابل لتبلبل الألسن بها، عند سقوط صرح نمرود، أي تفرقها. قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: بابل أرض الكوفة، وقيل: جبل دنباوند. وكسرى أول ميت اقتص من قاتله، كما قال الحافظ أبو الفرج بن الجوزي في كتاب الأذكياء، وذلك أن كسرى قال له منجموه: إنك تقتل. فقال: والله لأقتلن قاتلي. فعمد إلى سم ناقع، فوضعه في

<<  <  ج: ص:  >  >>