مفكرا في مقالته، ثم رفع رأسه إليه، وقد تبين له صدق قوله، وعلم أنه رجل عاقل. فقال له:
أريد منك ارتفاع ملكك ثلاث سنين عاجلا، ونصف ارتفاعه في كل سنة. فقال له ملك الصين:
هل غير هذا شيء؟ قال: لا. قال: قد أجبتك إلى ذلك. قال: فكيف يكون حالك حينئذ؟ قال:
أكون قتيل أول محارب، وأكلة أول مفترس. قال: فإن قنعت منك بارتفاع سنتين، كيف يكون حالك؟ قال: أصلح ما يكون ذلك مذهبا لجميع لذاتي. قال: فإن قنعت منك بالسدس. قال:
يكون السدس موفرا، والباقي للجيش ولأسباب الملك. قال: قد اقتصرت منك على هذا، فشكره وانصرف. فلما أصبح الصباح وطلعت الشمس، أقبل جيش الصين حتى طبق الأرض كثرة، وأحاط بجيش الاسكندر، حتى خافوا الهلاك، فتواثبوا إلى خيولهم فركبوها واستعدوا، فبينما هم كذلك، إذ ظهر ملك الصين على فيل عظيم وعليه التاج، فلما رأى الاسكندر، ترجل ومشى إليه، وقبل الأرض بين يديه، فقال الاسكندر: أغدرت؟ قال: لا والله. فقال: ما هذا الجيش؟ قال: أردت أن أعلمك أني لم أطعك من قلة ولا ضعف، وأن ترى هذا الجيش، وما غاب عنك أكثر منه، لكني رأيت العالم الأكبر مقبلا عليك ممكنا لك، ممن هو أقوى مني ومنك، وأكثر عددا، فعلمت أنه من حارب الاله غلب وقهر، فأردت طاعته بطاعتك، والذلة لأمره بالذلة لك. فقال له الاسكندر: ليس ينبغي أن يؤخذ من مثلك شيء، وما رأيت أحدا يستحق التفضيل والوصف بالعقل غيرك، وقد أعفيتك من جميع ما أردته منك، وأنا منصرف عنك. فقال له ملك الصين: أما إذ فعلت ذلك فإنك لا تخسر، ثم قدم له ملك الصين من الهدايا والتحف والالطاف، أضعاف ما قرره معه، ورحل الاسكندر عنه.
قلت: وقد أذكرتني هذه الحكاية، ما حكاه صاحب ابتلاء الأخبار، عن الاسكندر مع ملكة الصين الأقصى، قال: إن الاسكندر لما سار في الأرض، وفتح البلاد سمعت به ملكة الصين، فأحضرت من أبصر صورة الاسكندر، ممن يعرف التصوير، وأمرتهم أن يصوروا صورته، في جميع الصنائع، خوفا منه، فصوروه في البسط والأواني والرقوم، ثم أمرت بوضع ما صنعوه بين يديها، وصارت تنظر لذلك، حتى أثبتت معرفته، فلما قدم عليها الاسكندر ونازل بلدها، قال الاسكندر للخضر يوما: قد خطر لي شيء أقوله لك، قال: وما هو؟ قال: أريد أن أدخل هذه البلدة متنكرا، وأنظر كيف يعمل فيها؟ قال: افعل ما بدا لك.
فلما دخلها الاسكندر، نظرت إليه الملكة من حصنها، فعرفته بالصور التي عندها، فأمرت باحضاره فلما مثل بين يديها، أمرت به فوضع في مطمورة، لا يعرف الليل فيها من النهار، فبقي فيها ثلاثة أيام لا يأكل ولا يشرب، حتى كادت قوته أن تسقط، واختبط عسكره لأجل غيبته، والخضر يسكنهم ويسليهم، فلما كان اليوم الرابع، مدت ملكة الصين سماطا نحو مائة ذراع، ووضعت فيه أواني الذهب والفضة والبلور، وملأت أواني الذهب باللؤلؤ والزبرجد، وأواني الفضة بالدر والياقوت الأحمر والأصفر، وأواني البلور بالذهب والفضة، وما في ذلك شيء يؤكل، إلا أنه مال لا يعلم قدره إلا الله تعالى. وأمرت فوضع في أسفل السماط، صحن فيه رغيف من خبز البر وشربة من الماء، وأمرت باخراج الاسكندر، وأجلسته على رأس السماط، فنظر إليه فأبهره ذلك! وأخذت تلك الجواهر ببصره ولم ير فيه شيئا للأكل، ثم نظر فرأى في أدنى السماط إناء فيه طعام، فقام من مكانه ومشى إليه وجلس عنده، وسمى وأكل، فلما فرغ من أكله، شرب من الماء