ثم أرسل حلقة الباب، وانطلق هو ومن معه من قريش إلى الجبال، ينظرون ما أبرهة فاعل بمكة إذا دخلها، فحينئذ جاءت قدرة الواحد الأحد القادر المقتدر، فأصبح أبرهة متهيئا لدخول مكة وهدم البيت، وقدم فيله محمودا أمام جيشه، فلما وجه الفيل إلى مكة أقبل نفيل بن حبيب، كذا في سيرة ابن هشام.
وقال السهيلي: نفيل بن عبد الله بن جزء بن عامر بن مالك، فأخذ بأذن الفيل وقال: ابرك محمودا وارجع راشدا فإنك في بلد الله الحرام. ثم أرسل أذنه، فبرك الفيل فضربوه بالحديد حتى أدموه ليقوم فأبى! فوجهوه إلى اليمن فقام يهرول، فوجهوه إلى الشام ففعل مثل ذلك، فوجهوه إلى مكة فبرك. فعند ذلك أرسل الله تعالى عليهم طيرا أبابيل، ترميهم بحجارة من سجيل، فتساقطوا بكل طريق، وهلكوا على كل منهل، وأصيب أبرهة حتى تساقط أنملة أنملة، حتى قدموا به صنعاء وهو مثل فرخ الطائر، فما مات حتى انصدع قلبه عن صدره، وانفلت وزيره وطائر يحلق فوقه، حتى بلغ النجاشي، فقص عليه القصة، فلما أتمها وقع عليه الحجر، فخر ميتا بين يديه. وإلى هذه القصة أشار النبي صلى الله عليه وسلم بقوله في الحديث «١» الصحيح: «إن الله تعالى حبس عن مكة الفيل، وسلط عليها رسوله والمؤمنين» .
وفي صحيح «٢» البخاري وسنن أبي داود والنسائي، من حديث المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم رضي الله تعالى عنهما، يصدق كل واحد منهما حديث صاحبه، قالا: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية، حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها بركت به راحلته، فقال الناس: حل حل فألحت، فقالوا: خلأت القصواء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق ولكن حبسها حابس الفيل» . الخلاء في الإبل كالحران في الخيل، والمعنى في التمثيل بحبس الفيل أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم، لو دخلوا مكة لوقع بينهم وبين قريش قتال في الحرم، وأريق فيه دماء وكان منه الفساد ولعل الله سبحانه وتعالى قد سبق في علمه، ومضى في قضائه، أنه سيسلم جماعة من أولئك الكفار، وسيخرج من أصلابهم قوم مؤمنون، فلو استبيحت مكة لانقطع ذلك النسل وتعطلت تلك العواقب والله أعلم.
قيل: كان أبرهة المذكور جد النجاشي الذي كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وكان مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل، بعد هلاك أصحاب الفيل بخمسين يوما، قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: رأيت قائد الفيل وسائسه أعميين مقعدين يستطعمان الناس بمكة.
وروي أن عبد الملك بن مروان، قال لقباث بن أشيم الكناني: يا قباث أنت أكبر أم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم أكبر مني، وأنا أسن منه، ولد صلى الله عليه وسلم عام الفيل، ووقفت بي أمي على روث الفيل وهو أخضر، وأنا أعقله. قال السهيلي: قوله فبرك الفيل، فيه نظر، لأن الفيل لا يبرك، فيحتمل أن يكون فعل فعل البارك، الذي يلزم موضعه، ولا يبرح، فعبر بالبروك عن ذلك. ويحتمل أن يكون بروكه سقوطه إلى الأرض، لما دهمه من أمر الله سبحانه وتعالى.