للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

قال: وقد سمعت من يقول: إن في الفيلة صنفا يبرك كما يبرك الجمل، فإن صح، وإلا فتأويله كما قدمناه. قال: وقول عبد المطلب: لا هم ... الخ. إن العرب تحذف الألف واللام من اللهم وتكتفي بما بقي. والحلال متاع البيت، وأراد به سكان الحرم. ومعنى محالك كيدك وقوتك.

والكنيسة التي بناها أبرهة بصنعاء تسمى القليس، مثل القبيط سميت بذلك لارتفاع بنائها وعلوها، ومنه القلانس لأنها في أعلى الرؤوس، يقال: تقلس الرجل وتقلنس إذا لبس القلنسوة، وتقلس طعاما إذا ارتفع من معدته إلى فيه.

وكان أبرهة قد استذل أهل اليمن في بنائها، وكلفهم فيها أنواعا من السخر وكان ينقل إليها الرخام المجزع، والحجارة المنقوشة بالذهب والفضة، من قصر بلقيس صاحبة سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام، وكان من موضع هذه الكنيسة على فراسخ، ونصب فيها صلبانا من الذهب والفضة، ومنابر من العاج والآبنوس، وكان يشرف منها على عدن.

وكان حكمه في العامل فيها إذا طلعت عليه الشمس، قبل أن يعمل قطع يده، فنام رجل من العمال ذات يوم حتى طلعت الشمس، فجاءت أمه معه، وهي امرأة عجوز، فتضرعت إليه تستشفع لابنها، فأبى إلا قطع يده، فقالت: اضرب بمعولك اليوم، فاليوم لك وغدا لغيرك! فقال: ويحك ما قلت؟ قالت: نعم كما صار هذا الملك من غيرك إليك، فهو خارج عن يدك بمثل ما صار إليك! فأخذته موعظتها، وعفا عن ولدها وأعفى الناس من السخر فيها.

فلما هلك ومزقت الحبشة كل ممزق، أقفر ما حول هذه الكنيسة، وكثر حولها السباع والحيات، وكان كل من أراد أن يأخذ منها شيئا أصابته الجن، فبقيت من ذلك العهد بما فيها من العدد والخشب المرصع بالذهب والآلات المفضضة التي تساوي قناطير مقنطرة من الأموال إلى زمن أبي العباس السفاح. فذكروا له أمرها وما يتهيب من جنها، فلم يرعه ذلك، وبعث إليها أبا العباس بن الربيع عامله على اليمن، ومعه أهل الحزم والجلادة، فخربها واستأصلها، وحصل منها مالا كثيرا، وباع منها ما أمكن بيعه من رخامها وآلاتها. فخفي بعد ذلك رسمها وانقطع خبرها ودرست آثارها. وكان الذي يصيبهم من الجن، ينسبونه إلى كعيب وامرأته وهما صنمان كانت الكنيسة بنيت عليهما، فلما كسر كعيب وامرأته، أصيب الذي كسرهما بالجذام، فافتتن بذلك رعاع اليمن وطغامهم، وذكر أبو الوليد الأزرقي أن كعيبا كان من خشب وكان طوله ستين ذراعا.

وإلى قصة أبرهة أشرت بقولي في المنظومة في أول كتاب السير:

فجاءهم أبرهة بالفيله ... وبجيوش أقبلت محتلفه

وأمهم في عسكر كالليل ... مستظهرا برجله والخيل

وقد أتى الأسود نحو الحرم ... واستاق ما كان به من نعم

فأم ذاك الوقت عبد المطلب ... أبرهة والسعي في الخير طلب

فمذ رأى أبرهة وجها سما ... مهابة عظمه ربّ السما

انحطّ عن سريره منهبطا ... وقعدا على بساط بسطا

وقال: سل ما شئت من أمور ... فقال رد مائتي بعير

<<  <  ج: ص:  >  >>