في قلبه هيبة، فلما أصبحوا نزلوا إليه، فسأله الراهب عن شرائع دينه وسنن نبيه صلى الله عليه وسلم فقرر له سعيد ذلك كله، فأسلم الراهب وحسن إسلامه.
وأقبل القوم على سعيد يعتذرون إليه ويقبلون يديه ورجليه، ويأخذون التراب الذي وطئه بالليل يصلون عليه، ويقولون: يا سعيد حلفنا الحجاج بالطلاق والعتاق، إن نحن رأيناك لا ندعك حتى نشخصك إليه، فمرنا بما شئت. فقال سعيد: امضوا لشأنكم فإني لائذ بخالقي ولا راد لقضاء ربي.
فساروا حتى وصلوا إلى واسط، فلما انتهوا إليها، قال لهم سعيد رضي الله تعالى عنه: يا معشر القوم، قد تحرمت بكم وصحبتكم، ولست أشك أن أجلي قد قرب وحضر، وأن المدة قد انقضت ودنت، فدعوني الليلة آخذ أهبة الموت، وأستعد لمنكر ونكير، وأذكر عذاب القبر، وما يحثى على من التراب، فإذا أصبحتم فالميعاد بيني وبينكم المكان الذي تريدون، فقال بعضهم: لا نريد أثرا بعد عين. وقال بعضهم: إنكم قد بلغتم أمنكم، واستوجبتم جوائزكم من الأمير، فلا تعجزوا عنه. وقال بعضهم: هو علي أدفعه إليكم إن شاء الله تعالى. فنظروا إلى سعيد وقد دمعت عيناه واغبر لونه، وكان لم يأكل ولم يشرب ولم يضحك، منذ لقوه وصحبوه، فقالوا بأجمعهم: يا خير أهل الأرض ليتنا لم نعرفك ولم نرسل لك، الويل لنا كيف ابتلينا بك! فاعذرنا عند خالقنا، يوم الحشر الأكبر، فإنه القاضي الأكبر، والعادل الذي لا يجوز. فلما فرغوا من البكاء والمجاوبة له ولهم، قال كفيله: أسألك بالله يا سعيد إلا ما زودتنا من دعائك وكلامك، فإنا لن نلقي مثلك أبدا.
فدعا لهم سعيد رضي الله تعالى عنه. ثم خلوا سبيله، فغسل رأسه ومدرعته وكساءه، وأقبل على الصلاة والدعاء والاستعداد للموت، ليله كله، وهم مختفون الليل كله فلما انشق عمود الصبح، جاءهم سعيد بن جبير رضي الله تعالى عنه فقرع الباب، فقالوا: صاحبكم ورب الكعبة، فنزلوا إليه فبكى وبكوا معه طويلا، ثم ذهبوا به إلى الحجاج فدخل عليه المتلمس فسلم عليه وبشره بقدوم سعيد بن جبير، فلما مثل بين يديه قال له:
ما اسمك؟ قال: سعيد بن جبير. فقال: بل أنت شقي بن كسير. قال سعيد: بل أمي كانت أعلم باسمي منك. فقال الحجاج: شقيت أنت وشقيت أمك. فقال سعيد: الغيب يعلمه غيرك. قال الحجاج: لأبدلنك بالدنيا نارا تلظى. قال: لو علمت أن بيدك لاتخذتك إلها. قال:
فما قولك في محمد صلى الله عليه وسلم؟ قال: نبي الرحمة. قال: فما قولك في علي أفي الجنة هو أم النار؟ قال: لو دخلتهما وعرفت أهلهما عرفت من فيهما. قال: فما قولك في الخلفاء؟ قال: لست عليهم بوكيل.
قال: فأيهم أعجب إليك؟ قال: أرضاهم لخالقه. قال: فأيهم أرضى للخالق؟ قال: علم ذلك عند الذي يعلم سرهم ونجواهم. قال: فما بالك لا تضحك؟ قال: أيضحك مخلوق خلق من الطين والطين تأكله النار؟ قال: فما بالنا نضحك؟ قال: لم تستو القلوب. قال: ثم إن الحجاج أمر باللؤلؤ والزبرجد والياقوت، وغير ذلك من الجواهر، فوضعت بين يدي سعيد، فقال سعيد رضي الله تعالى عنه: إن كنت جمعت هذا لتفدى به من فزع يوم القيامة، فصالح، وإلا ففزعة واحدة