للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

تذهل كل مرضعة عما أرضعت، لا خير في شيء جمع للدنيا إلا ما طاب وزكا.

ثم دعا الحجاج بآلات اللهو، فضربت بين يدي سعيد فبكى سعيد. فقال الحجاج: ويلك يا سعيد. فقال سعيد: الويل لمن زحزح عن الجنة، وأدخل النار. فقال: يا سعيد أي قتلة تريد أن أقتلك بها؟ قال: اختر لنفسك يا حجاج، فو الله لا تقتلني قتلة إلا قتلك الله مثلها في الآخرة.

قال: فتريد أن أعفو عنك؟ قال: إن كان العفو من الله فنعم، وأما منك أنت فلا. فقال: اذهبوا به فاقتلوه. فلما أخرج من الباب ضحك، فأخبر الحجاج بذلك، فأمر برده فقال: ما أضحكك وقد بلغني أن لك أربعين سنة لم تضحك؟ قال: ضحكت عجبا من جراءتك على الله، ومن حلم الله عليك، فأمر بالنطع فبسط بين يديه، وقال: اقتلوه.

فقال سعيد: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ*

«١» . ثم قال: وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ

«٢» . قال: وجهوه لغير القبلة. فقال سعيد: فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ

«٣» فقال: كبوه لوجهه. فقال: مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى

«٤» فقال الحجاج: اذبحوه. فقال سعيد: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله. ثم قال: اللهم لا تسلطه على أحد يقتله بعدي. فذبح على النطع رحمة الله تعالى عليه، فكان رأسه يقول بعد قطعه: لا إله إلا الله مرارا. وذلك في شعبان سنة خمس وتسعين. وكان عمر سعيد تسعا وأربعين سنة، وعاش الحجاج بعده خمس عشرة ليلة، ولم يسلط على قتل أحد بعده.

ولما بلغ الحسن البصري «٥» رضي الله تعالى عنه قتل سعيد بن جبير، قال: اللهم أنت على فاسق ثقيق رقيب، والله لو أن أهل المشرق والمغرب اشتركوا في قتله، لكبهم الله تعالى في النار، والله لقد مات وأهل الأرض من المشرق إلى المغرب محتاجون إلى علمه. ونقل أن سعيدا رضي الله تعالى عنه كان يقول: وشى بي واش، وأنا في بلد الله الحرام، أكله إلى الله، يعني خالد القسري.

وروي أن الحجاج لما حضرته الوفاة، كان يغيب ثم يفيق، ويقول: ما لي ولسعيد بن جبير.

وقيل: إنه كان في مدة مرضه كلما نام، رأى سعيد بن جبير آخذا بثوبه، وهو يقول: يا عدو الله فيم قتلتني فيستيقظ مذعورا.

وروي أن أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى، رآه بعد موته في المنام، وهو جيفة منتنة، وأنه قال له: ما فعل الله بك؟ فقال: قتلني الله بكل قتيل قتلته قتلة واحدة، وقتلني بسعيد بن جبير سبعين قتلة.

فإن قيل ما الحكمة في أن الله تعالى قتل الحجاج بكل قتيل قتلة وقتله بسعيد سبعين قتلة؟

وقد قتل من هو أفضل من سعيد، وهو عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنهما، لأنه صحابي،

<<  <  ج: ص:  >  >>