للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فكتب إليه مالك بن أنس: بسم الله الرحمن الرحيم من مالك بن أنس إلى يحيى بن يزيد، سلام عليك أما بعد فقد وصل إلي كتابك، فوقع مني موقع النصيحة من المشفق، أمتعك الله بالتقوى، وجزاك وخولك بالنصيحة خيرا، وسأل الله التوفيق، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وأما ما ذكرت، من أني آكل الرقاق وألبس الرقاق وأجلس على الوطاء، فنحن نفعل ذلك ونستغفر الله تعالى، وقد قال سبحانه: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ

«١» وإني لا أعلم أن ترك ذلك، خير من الدخول فيه، فلا تدعنا من كتابك فإنا ليس ندعك من كتابنا والسلام. وفيه أيضا وروي أن الرشيد أعطاه ثلاثة آلاف دينار فأخذها ولم ينفقها، فلما أراد الرشيد الشخوص إلى العراق، قال لمالك: ينبغي أن تخرج معنا فإني عزمت أن أحمل الناس على الموطأ، كما حمل عثمان رضي الله عنه الناس على القرآن. فقال له: أما حمل الناس على الموطأ فليس إلى ذلك سبيل، فإن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم افترقوا بعده في الأمصار فحدثوا فعند أهل كل مصر علم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «اختلاف أمتي رحمة» وأما الخروج معك فلا سبيل إليه، قال صلى الله عليه وسلم: «المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون» . وقال «٢» صلى الله عليه وسلم: «المدينة تنفي خبثها كما ينفي الكير خبث الحديد» . وهذه دنانيركم كما هي، إن شئتم فخذوها وإن شئتم فدعوها. يعني إنما تكلفني الخروج معك، ومفارقة المدينة بما اصطنعته لدي. فلا أوثر الدنيا على مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا يدل على زهده في الدنيا رحمه الله تعالى.

وفيه أيضا أن الشافعي رحمه الله، قال: شهدت مالكا رحمه الله وقد سئل عن ثمان وأربعين مسألة؛ فقال في اثنتين وثلاثين منها: لا أدري وهذا يدل على أنه كان يريد بعلمه وجه الله تعالى، فإن من يريد غير وجه الله بعلمه لا تسمح نفسه بأن يقر على نفسه بأنه لا يدري. ولذلك قال الشافعي: إذا ذكر العلماء فمالك البحر، وما أحد أمن علي من مالك.

وقيل: إن أبا جعفر المنصور منعه من رواية الحديث في طلاق المكره، ثم دس عليه من سأله؛ فروى عن ملأ من الناس: ليس على مكره طلاق. فضربه بالسياط. فانظر كيف اختار ضرب السياط، ولم يترك رواية الحديث.

وفي الحلية أن الشافعي رحمه الله، قال: قالت لي عمتي، ونحن بمكة: رأيت في هذه الليلة عجبا! فقلت لها: وما هو؟ قالت: رأيت كأن قائلا يقول لي: مات الليلة أعلم أهل الأرض. قال الشافعي: فحسبنا ذلك فإذا هي ليلة مات مالك بن أنس رحمه الله تعالى.

وقال عبد الرحمن بن مهدي: لا أقدم على مالك أحدا. وكان مالك يقول: إذا لم يكن للإنسان في نفسه خير، لم يكن للناس فيه خير. وفي الحلية أيضا، قال مالك: ما بت ليلة إلا رأيت فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى.

وكان مالك رحمه الله إماما عالما عابدا زاهدا ورعا عارفا بالله تعالى، وكان مبالغا في تعظيم علم الدين، لا سيما حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه كان إذا أراد أن يحدث توضأ وجلس على صدر

<<  <  ج: ص:  >  >>