للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولد في القاهرة بشارع حوش قدم بالغورية. وكان جده ووالده يعملان أول الأمر في تجارة الأقمشة والأحجار الكريمة، وتنتشر تجارتهما هذه ما بين القاهرة وجدة وسنغافورة وسواكن الخرطوم. ثم توجها إلى الزراعة في القليوبية. وكان جده سلفي النزعة، قد طبع العديد من كتب الشيخ محمد بن عبد الوهاب. فنشأ المترجم له في جوّ بعيد عن البدع، وتلقى دراسته الابتدائية في مدارس الجمعية الخيرية. وبعد وفاة جده انتقلت الأسرة إلى القاهرة، فالتحق بالمرحلة الثانوية من المدرسة الإلهامية في الحلمية، ثم انتظم في كلية الحقوق، وبعد التخرج عام ١٩٣٣ م تمرّن على المحاماة، ثم اتخذ له مكتبا في بندر شبين القناطر، وانضمّ إلى جماعة الإخوان المسلمين، فكان أول محام ينضم للجماعة، ويوقف فكره وجهده دفاعا عنها.

عمر عبد الفتاح التلمساني

ولم يشغله عمله هذا عن تثقيف نفسه، فقد كان نزّاعا إلى المطالعة في كتب الفقه والتفسير والحديث والسيرة النبوية، فكان على علم كبير، وحفظ آلاف الأحاديث.

ويقول في أسلوبه الدعوي: «ما خفت أحدا في حياتي إلّا الله، ولم يمنعني شيء من الجهر بكلمة الحق التي أؤمن بها، مهما ثقل وقعها على الآخرين، ومهما لقيت في سبيلها من العنت .. أقولها هادئة رصينة مهذبة لا تؤذي الأسماع ولا تخدش المشاعر، وأتجنب كل عبارة أحسّ أنها لا ترضي محدّثي أو مجادلي، فأجد من الراحة النفسية في هذا الأسلوب ما لا أجده في سواه، ولئن لم يكسبني الكثير من الأصدقاء، فإني قد وقيت به شرّ الكثير من الأعداء، هذا إلى ما نالني ورقيت به منذ انتسابي إلى جماعة الإخوان المسلمين .. ».

وكان شديد الحياء، كما لاحظ فيه ذلك كل من رآه عن قرب، وكان جليسه ومحاوره يشعر بأن الأحداث القاسية والطويلة التي عركته في ظلمات السجن قد صهرت نفسه، حتى لم تدع فيه مكانا لغير الحقيقة التي يؤمن بها ..

ويذكر أنه عاصر الوفد وقيامه، وثورة ١٩١٩ م، التي كان من المنتظر أن تأتي بأبرك الثمرات لمصر بخاصة وللأمة الإسلامية بعامة، ولولا المؤامرات الشخصية والانفعالات الزعامية، والألاعيب السياسية التي مزقت الشعب المصري فرقا وأحزابا وشيعا واتجاهات، وأطاحت بكل ما أمله المصريون .. وكذلك كان انقلاب يوليو ١٩٥٢ م ..

وظلّ خلف الأسوار أكثر من سبعة عشرة عاما، بداية من عام ١٩٥٤ عند ما حكم عليه بالأشغال الشاقة ١٥ عاما، ثم أعيد اعتقاله فور انتهاء المدة عام ١٩٦٩ حتى أفرج عنه عام ١٩٧١، وأعيد اعتقاله مرة أخرى في مذبحة ٥ سبتمبر الشهيرة عام ١٩٨١.

ويقول الشيخ: إنّ ثبات السجين على دعوته انتصار للحق على الباطل وهزيمة للباغي في عجزه عن تحقيق بغيته، وإن السجون مدرسة للتطهر والصفاء وترسيخ اليقين .. قال: وكم من أخ أدخل على إخوانه وقد سال دمه وتمزّق لحمه وبرزت عظامه، وهو يبتسم، وهم من حوله محزونون مغمومون لما أصابه من التعذيب.

وفي حديث شعبي للرئيس أنور السادات حضره التلمساني، وبثّ في الإذاعة والتلفاز، اتهم جماعته بالفتنة الطائفية، وساق إليها أنواع التهم، فقال له: الشيء الطبيعي بإزاء أي ظلم يقع عليّ من أي جهة أن أشكو صاحبه إليك، بصفتك المرجع الأعلى للشاكين بعد الله، وها أنذا أتلقى الظلم منك، فلا أملك أن أشكوك إلا إلى الله.

وأصاب السادات الرعب بما سمع ..

فلملم تهمه، وانقلب مستعطفا يسأل المظلوم إلغاء شكواه .. كل ذلك على مرأى ومشهد من مئات الحاضرين لذلك الحفل، وملايين المشاهدين عن طريق التلفاز!

وعند ما سئل: إنّ في حياتكم المباركة خبرات تستحق التسجيل لينتفع بها المسلم في كل مكان .. فهل لكم بكلمة توجهونها إلى الدعاة والشباب؟ .. أجاب بقوله:

«الصعاب التي تعترض الدعاة في هذا العصر عاتية غاشمة. القوة المادية في يد أعداء الإسلام، وقد اتحدوا مع اختلافهم على أهله، وأكبر تركيزهم على الإخوان المسلمين. وعلى أساس الموازين البشرية لم يكن لجنود طالوت المؤمنين طاقة بجالوت وجنوده، ولكن لما أيقنت عصبة الإيمان أن النصر من عند الله وليس مرهونا بالعدد والعدة هزموا كتائب جالوت بإذن الله. إنني لا أستهين بقوة العدد، ولا أطلب من الدعاة أن يخلدوا إلى التواكل ومصمصة الشفاه، وتحريك الأعناق يمنة ويسرة، وضرب الأكف بعضها ببعض .. إنها نكبة النكبات القاضية الماحقة الساحقة، ولكن التمسك بالوحي المنزل من عند الله، والجهر بكلمة الحق في إصرار واستمرار، والاستهانة بكل صنوف الإيذاء، وضرب المثل العالية من أنفسهم في الرجولة والبطولة والثبات، ويقينهم بأنّ الله مبتليهم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات، ليعلم الصادقين من المزيفين .. هذا كله من أسباب النصر في سنن الله، وقصص القرآن خير شاهد على ذلك.

<<  <  ج: ص:  >  >>