للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكان زاهدا في الحياة، يقوم الليل، ويصوم الأيام الطويلة .. وعاش في السجون لا يلبس إلا الثياب الخشنة، وحتى الثياب الداخلية التي كان لكل سجين حق شرائها من مقصف السجن يرفضها .. ليعيش متجردا من كل ما يعتبره ضابط السجن منة توهب للسجين ترغيبا، أو يحرم منها ترهيبا .. ورجل هذه حياته، وهذا زهده، لم يكن غريبا أن يأبى ما يطلبه منه ضباط السجن وضباط المباحث- طوال مدة سجنه- من تأييد نظام حكم عبد الناصر .. ولم يكن يشكل صموده في هذا الموقف صراعا نفسيا يدعوه إلى الحفاظ على زوجته الأولى حين امتدت به الأيام وثقلت بها تبعات الأعوام، فقد كان يرى- مع ذلك- أن الإبقاء على ربه، أغلى من الإبقاء على بيته ..

وكتب في وصفه المستشار عبد الله العقيل- وقد عرفه عن قرب- فقال:

«هو الأخ الحبيب والخل الوفي، والتقي الورع، المسلم الصادق، والداعية المجاهد، والمؤمن الصابر، والرجل الصلب، المعدن النفيس، العاملبصمت، الصوام القوام، التالي الذاكر، الذي ضرب أروع الأمثلة في الثبات على الأمر، والجرأة في الحق، والصبر على البلاء، فكان المثل لإخوانه الدعاة داخل السجون ...

كان السنانيري التلميذ الوفي لمبادئ شيخه وأستاذه الإمام الشهيد حسن البنا، والذي وعى الدرس من أول مرة، أدرك بأن طريق الدعوة محفوف بالمخاطر مليء بالأشواك، لأنه الطريق إلى الجنة، المحفوفة بالمكاره، لقد كان يردد على ظهر قلب ما كتبه الشيخ لتلاميذه حيث قال:

سيقف جهل الشعب بحقيقة الإسلام أمامكم، وسيحاربكم العلماء الرسميون السائرون في ركاب السلطة، وستحاول كل حكومة أن تحد من نشاطكم وأن تضع العراقيل في طريقكم، وستستعين بذوي النفوس الضعيفة، والقلوب المريضة والأيدي الممتدة إليها بالسؤال، وإليكم بالإساءة والعدوان، فتسجنون وتعتقلون وتشردون، وتفتش بيوتكم، وتصادر مصالحكم، ويروع أطفالكم، وتنهب أموالكم، وتثار ضدكم الاتهامات الظالمة، والافتراءات الكاذبة، لتشويه سمعتكم، والنيل من أقداركم، وقد يطول بكم مدى هذا الامتحان، وعند ذلك فقط تكونون قد بدأتم تسلكون طريق أصحاب الدعوات ... إلخ.

وكان الأستاذ السنانيري يترجم هذا الكلام إلى واقع حي مشاهد، عاشه هو وإخوانه قرابة ربع قرن في غياهب السجون وظلمات الزنازين وتحت سياط الجلادين».

قبض عليه في أوائل سبتمبر ١٩٨١ م عقب عودته من واشنطن مباشرة. وسقط شهيدا بيد جلاديه تحت التعذيب يحاولون انتزاع ما يرضيهم من الطعن في الجماعات الإسلامية، ولكنه استمر يقول: «إن السادات قد فتح قبره بيديه بتوقيعه معاهدة الذل (كامب ديفيد) التي تقضي بتسليم رقاب الشعب المصري المسلم لإسرائيل وأمريكا، وبافترائه على الإسلام ودعاته».

وإذا كان رثاء الزوجات لأزواجهن نادرا في الشعر، فقد رثته زوجته أمينة قطب في أكثر من قصيدة، وكان لها قصيدة حزينة مؤثرة في ذكرى كل سنة بعد استشهاده، وعلى مدى سنوات طويلة رأيت ذلك في مجلة المجتمع الكويتية. ولو أنها جمعت في ديوان لكان حدثا في دنيا الشعر المعاصر.

وكان أول تلك القصائد بعد استشهاده:

ما عدت أنتظر الرجوع ولا مواعيد المساء ... ما عدت أحفل بالقطار يعود موفور الرجاء

ما عاد كلب الحي يزعجني بصوت أو عواء ... وأخاف أن يلقاك مهتاجا يزمجر في غباء

ما عدت أنتظر المجيء أو الحديث ولا اللقاء ... ما عدت أرقب وقع خطوك مقبلا بعد انتهاء

وأضيء نور السلم المشتاق يسعد بارتقاء ... ما عدت أهرع حين تقبل باسما رغم العناء

ويضيء بيتي بالتحيات المشعة بالبهاء ... ونعيد تعداد الدقائق كيف وافانا المساء؟

وينام جفني مطمئنا لا يؤرّقه بلاء ... ما عاد يطرق مسمعي في الصبح صوتك في دعاء

ما عاد يرهف مسمعي صوت المؤذن في فضاء ... وإذا بفجري في غيابك يستحيل إلى بكاء

ما عاد قلبي يستجيب لأمنيات أو رجاء ... ما عادت الأيام تشرق أو توسوس بالهناء

فقد انطوت في وهدة لرحيل عطف واحتواء ... وتركتني أهوي مع الأيام في صمت الشقاء

وأسائل الدنيا: ألا من سامع مني نداء؟ ... أتراه ذاك الشوق للجنات أو حب السماء؟

أتراه ذاك الوعد عند الله؟ هل حان الوفاء؟ ... فمضيت كالمشتاق كالولهان حبا للنداء؟

وهل التقيت هناك بالأحباب؟ ما لون اللقاء؟ ... في حضرة الديّان في الفردوس في فيض العطاء؟

أبدار حق قد تجمعتم بأمن واحتماء؟ ... إن كان ذاك فمرحبا بالموت مرحى بالدماء

ولسوف ألقاكم هناك وتختفي دار الشقاء ... ولسوف ألقاكم أجل. وعد يصدقه الوفاء

ونثاب أياما قضيناها دموعا وابتلاء ... وسنحتمي بالخلد لا نخشى فراقا أو فناء (١).

محمد كنوني المذكوري (٠٠٠ - ١٣٩٨ هـ- ٠٠٠ - ١٩٧٧ م)

عالم، مجاهد.

عضو بارز في الأمانة العامة لرابطة علماء المغرب، من قدماء العاملين في الحركة الوطنية، أوذي في سبيل ذلك وسجن. وكان من العلماء الدعاة، وله فتاوى دأبت جريدة رابطة العلماء على نشرها، وكان من دعاة السلفية.


(١) المجتمع ع ٥٥١ (٢٠/ ١/ ١٤٠٢ هـ) - بقلم أخيه المقدم المتقاعد محمد سعد- وع ٥٥١ (٢٠/ ١/ ١٤٠٢ هـ)، وع ٥٦٥ (١٢/ ٦/ ١٤٠٢ هـ)، العالم الإسلامي ع ١٣٨٥ (٣/ ٧/ ١٤١٥ هـ) بقلم عبد الله العقيل.
قلت: وقد قرأت في كتاب أن جريدة- رسمية أو شبه رسمية- أعلنت حينئذ أنه مات في السجن نتيجة «اسفكسيا الخنق»! !

<<  <  ج: ص:  >  >>