شيخه رغبته على وضع شرح لسنن أبي داود، وطلب منه أن يساعده في ذلك وأن يكون له فيه عضده الأيمن وقلمه الكاتب، وكان ذلك مبدأ سعادته وإقباله، فكان الشيخ خليل يرشده إلى المظان والمصادر العلمية التي يلتقط منها المواد، فيجمعها الشيخ محمد زكريا ويعرضها على شيخه فيأخذ منها ما يشاء، ويترك ما يشاء، ثم يملي عليه الشرح فيكتبه، وهكذا تكون كتاب «بذل المجهود في شرح سنن أبي داود» في خمسة أجزاء كبار، وفتح ذلك قريحته في التأليف والشرح، ووسع نظره في فن الحديث، ثم اهتم بطبعه في المطابع الهندية، والعناية بتصحيحه وإخراجه.
وعين مدرسا في «مظاهر العلوم» التي كان يدرس فيها شيخه- ووالده من قبل- غرة محرم سنة ١٣٣٥ هـ وهو أصغر الأساتذة سنا، وأسند إليه تدريس كتب لا تسند عادة إلى أمثاله في العمر، وأثبت المدرس الشاب جدارته وقدرته على التدريس، حتى أصبح رئيس أساتذة هذه المدرسة، وانتهت إليه رئاسة تدريس الحديث أخيرا، وكان أكثر اشتغاله بتدريس سنن أبي داود، ويدرس النصف الثاني من صحيح البخاري في آخر السنة، وبعد وفاة الشيخ عبد اللطيف مدير المدرسة آل إليه تدريس الجامع الصحيح بكامله، فواظب عليه مدة طويلة مع ضعف بصره وأمراضه الكثيرة، ولم يعتذر عنه إلا في أول السنة الدراسية في سنة ١٣٨٨ هـ.
وكان اشتغاله بالتدريس طول هذه المدة تطوعا وتبرعا، لا يأخذ في ذلك أجرا ولا يبغي جزاء، وعند ما سافر بصحبة شيخه السهارنفوري إلى الحج عام ١٣٤٤ هـ، حصلت له في الحجاز الإجازة العامة والخلافة المطلقة عن الشيخ خليل أحمد، وفي هذه الرحلة وأثناء إقامته في مدينة الرسول عليه أفضل الصلاة والتسليم بدأ في تأليف كتاب «أوجز المسالك» في شرح الموطأ لإمام دار الهجرة، وهو في التاسعة والعشرين من عمره، بدأ في تأليفه في مسجد الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وبارك الله في الكتابة والتأليف، فأكمل في بضعة شهور ما لم يكمله في سنين عديدة في الهند، ووصل في الشرح إلى أبواب الصلاة، وظل مشتغلا به بعد عودته إلى الهند، تتخلله فترات طويلة حتى أكمله في ستة أجزاء كبار.
وعاد إلى الهند مكرما محببا مثقلا بالأعباء، قد شخصت إليه الأبصار، وارتفعت إليه الأصابع، واتجهت إليه القلوب، فأقبل على التدريس والتأليف بجميع همته، وتوفي شيخه في الحجاز فآلت إليه المشيخة ورئاسة تدريس الحديث، والإشراف على تربية أصحابه، والاتصال بمراكز العلم المنتشرة حوله، وبالجماعات الدينية التي تلوذ به وتلتقي عليه وتصدر عن رأيه، وبيته ملتقى العلماء والطلبة والواردين والصادرين، ولا تشغله المطالعة وما فطر عليه من حب العلم الانزواء والخلوة، عن البشاشة، وبذل الود، وطيب النفس، ولا يشغله كل ذلك عن الاشتغال بربه، والانفراد بعبادته ومناجاته، وعن تربية المريدين، وعن حضور حفلات التبليغ، وعن وضع كتب ورسائل في الإصلاح والدعوة إلى الله، في أسلوب سهل يتنزل فيه إلى مستوى العامة، وقد تلقيت هذه الرسائل بقبول عام وانتفع بها خلق لا يحصون، وظهرت لها طبعات لم تتيسر إلا لكتب دينية معدودة في عصرنا.
وأوقاته مشغولة بأمور نافعة موزعة بينها، يحافظ عليها بكل دقة وشدة، فإذا صلى الفجر جلس قليلا، مشغولا بحزبه وورده، ثم يخرج إلى بيته ويجلس مع الناس، ثم يطلع إلى غرفة مطالعته فيشتغل بالمطالعة والتأليف، ولا يزوره في هذا الوقت إلا من يطلبه أو من يكون مستعجلا من الضيوف، وغرفته هذه تذكر بالسلف المنقطعين إلى العلم والتأليف، فهي آية في البساطة والتقشف، ومجردة من كل زينة وتكلف، فإذا كان وقت الغداء نزل وجلس مع الضيوف الذين يكثر عددهم عادة وهم من طبقات شتى، فيؤنسهم ويلاطفهم ويبالغ في إكرامهم، والتفقد لما يسرهم ويلذ لهم، فإذا صلى الظهر اشتغل بإملاء الرسائل والرد عليها قليلا، وكانت تتراوح بين ٤٠ و ٥٠ رسالة يوميا، ثم خرج إلى الدرس، وكان يشتغل به ساعتين كاملتين قبل العصر، فإذا صلى العصر جلس للناس، وإذا صلى المغرب اشتغل طويلا بالتطوع والأوراد، ولا يتناول طعام العشاء عادة إلا إكراما لضيف كبير.
وهو كثير النشاط لا يعرف الكسل، خفيف الروح، بشوش ودود، كثير الدعابة مع الذين يأنسهم أو يحب أن يؤنسهم، سريع الدمعة، جريح المقلة، كلما ذكر شيء من أخبار الرسول صلّى الله عليه وسلّم أو الصحابة والأولياء، أو أنشد بيت رقيق مرقق فاضت عيناه، وتملكه البكاء، وهو يغالبه ويخفيه فتنم عليه الدموع، وليس الحديث له صناعة وعلما فحسب، بل هو ذوق وحال يعيش به ويعيش فيه.
وسافر إلى الحج للمرة الخامسة في صفر عام ١٣٨٩ هـ، وصاحبه فيها العلامة أبو الحسن الندوي، وذكر أنه كان شديد الأدب مع الرسول صلّى الله عليه وسلّم، شديد الحب له والشوق إليه، وكان يجلس تجاه أقدامه- عليه الصلاة والسّلام- ساعات متواليات، مشغولا مراقبا، رغم ضعفه وكبرسنه وعلله الكثيرة، لا يفتر ولا يشبع من ذلك، وكان يتمنى البقاء في هذه البقعة المباركة وفي هذا الجوار الكريم حتى يفارق الدنيا ويلحق بربه، ويعز عليه حديث العودة، إلا أن دعوات المسلمين وما يعانونه في الهند من مشكلات ومسائل، تطلب بقاءه بجوارهم، وما تعانيه المدارس الدينية من أزمات ومعضلات، وما تحتاج إليه في الهند جماعة التبليغ من إرشاد